-
كوردستان الفرصة التي دمّرها الغرب
متى ستعتذر بريطانيا وفرنسا إلى الشعب الكوردي عن جريمة التاريخ؟ الديون الأخلاقية لا تسقط بالتقادم، والعدالة المؤجَّلة لا تموت.
لو كانتا تدركان حجم الخسارة الحضارية والاستراتيجية التي لحقت بهما يوم شاركتا في هندسة تقسيم كوردستان، لبادرتا، أخلاقيًا قبل سياسيًا، إلى الاعتذار مرارًا للشعب الكوردي، لا بوصفه ضحية تاريخية فحسب، بل بوصفه فرصة مهدورة للحضارة العالمية ذاتها.
فذلك التقسيم، الذي تكرّس عبر تفاهمات استعمارية مثل اتفاقية سايكس‑بيكو، ثم أُجهض لاحقًا بعد أن لاحت بوادر العدالة في معاهدة سيفر، لم يُنتج استقرارًا، بل خلق قرنًا كاملًا من العنف، والدول الهشّة، والهويات المقهورة.
بتلك القسمة العشوائية، قُضي على إمكانية نشوء دولة كوردستانية كانت، وفق المعطيات الجيوسياسية والاقتصادية، مرشحة خلال عقود قليلة لأن تكون ضمن أقوى اقتصادات العالم. فالجغرافيا الكوردية تطفو فوق واحد من أكبر احتياطات النفط والغاز غير المستثمرة، وتمتلك من أخصب السهول الزراعية في غرب آسيا، إضافة إلى سلاسل جبلية تختزن معادن نادرة تدخل اليوم في صُلب الصناعات الاستراتيجية الحديثة. هذه الموارد، لو أُديرت ضمن نموذج دولة حديثة، كانت كفيلة بإنتاج ناتج قومي يتجاوز التريليون دولار، لا بوصفه رقمًا ريعيًا، بل قاعدة لانفجار استثماري عالمي مستدام.
غير أنّ الخسارة الأعمق لم تكن اقتصادية فحسب، بل حضارية وفكرية. فالمجتمع الكوردي، بثقافته التعددية وتاريخه غير الإمبراطوري، كان مؤهّلًا لتقديم نموذج سياسي مدني للشرق، دولة تفصل الدين عن السلطة دون أن تعادي الدين، وتحتضن الإسلام بوصفه قيمة أخلاقية روحية، لا أداة حكم أو آلة تعبئة. وهو ما تؤكده دراسات الأنثروبولوجيا الدينية عن خصوصية التدين الكوردي، الذي يميل تاريخيًا إلى التسامح، وقبول الآخر، وتأويل ليبرالي للإسلام، بعيد عن البنى السلفية والتكفيرية.
لو قُدّر لهذا النموذج أن يرى النور، لكان بمقدوره أن يشكّل حاجزًا بنيويًا في وجه صعود الإسلام السياسي الراديكالي، لا بالقمع، بل بتجفيف منابعه الاجتماعية والفكرية. وكانت أوروبا، قبل الشرق، ستجني ثمار ذلك الاستقرار، إذ أن معظم موجات التطرف، والهجرة القسرية، والفوضى الأمنية، هي في جوهرها نتائج مباشرة لإجهاض تلك الدولة الممكنة، لا لحتميات ثقافية كما يُروَّج.
إنّ ما خسرته فرنسا وبريطانيا لم يكن «مستعمرة» أو «نفوذًا عابرًا»، بل شريكًا حضاريًا محتمَلًا في قلب الشرق، ودولة كان يمكن أن تكون جسر توازن بين أوروبا وآسيا، لا ساحة صراع مفتوحة. وما تدفعه البشرية اليوم من أكلاف أمنية واقتصادية، ليس إلا فائدة مركّبة لخطأ تاريخي لم تُصحَّح معادلاته بعد.
لم تكن كوردستان ضحيةَ خطأٍ جغرافي، بل نتيجة جريمة عقلٍ استعماري آمن بأن تفكيك الأمم أسهل من فهمها، وبأن كسر العمود الفقري للتاريخ أقلّ كلفة من التعايش معه. ما جرى قبل قرن لم يكن مجرّد اتفاق سياسي عابر، بل لحظة انكسار أخلاقي في الوعي الأوروبي، لحظة قرّرت فيها قوى كبرى أن تقتطع أمةً كاملة من مجرى التاريخ، وتلقي بها في هوامشه، لتدفع ثمنًا مؤجلًا لا يزال العالم يسدّده حتى اليوم.
ليس السؤال، لماذا لم تولد دولة كوردستان؟
بل السؤال الأخطر، كم حربًا، وكم استبدادًا، وكم تطرفًا، وكم نزيفًا إنسانيًا كان يمكن تجنّبه لو لم تُقتل هذه الفكرة في مهدها؟
فالدول لا تُسقط فقط بالقوة، بل تُغتال أحيانًا حين يُحرم الممكن من الوجود، وحين يُعامل المستقبل كما لو كان خطرًا يجب وأده لا احتضانه.
لقد حُرم الشرق من توازنٍ كان يمكن أن يعيد صياغة علاقته بذاته، وحُرمت أوروبا نفسها من شريك حضاري كان قادرًا على تقديم نموذج مختلف، دولة ثروة بلا استعمار، قوة بلا توسّع عدواني، تدين بلا تكفير، وحداثة بلا اقتلاع. وحين أُقصي هذا الاحتمال، لم يولد الاستقرار البديل، بل وُلد الفراغ، والفراغ هو الأب الشرعي لكل تطرف.
هذه ليست قراءة في الماضي، بل محاكمة لفلسفة سياسية أخطأت في فهم التاريخ، فدفع العالم ثمن جهلها قرنًا كاملًا.
د. محمود عباس
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

