الوضع المظلم
الخميس ٠٦ / مارس / ٢٠٢٥
Logo
معاوية بيننا... اشحذوا السيوف !
 بشار عبود

الحدث جلل. الشخصية مُغرية. تفتح الشهّية. والكل يمكنه الإدلاء بدلوه فيها وحولها؛ الشيعي، السني، العلوي، المسيحي، الدرزي، العلماني، حتى الملحد يستطيع الإدلاء برأيه إن لم يسلم من فتنة الإغراء والمشاركة فيه. نحن مجتمع الطوائف والكراهية، تربّينا على الخوف من بعضنا فكيف ننأى بأنفسنا عن هذه الواقعة المَهيبة؟ لن نسمح بمرورها هكذا وإلّا حكّتنا جلودنا. هل لدى تجار الدين أرضاً أكثر خصوبة من هذه ليستثمروا فيها؟ أين سيجد صُنّاع الدراما شخصية مثيرة للجدل مثل الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان كي يحققوا من خلاله أرباحهم الطائلة؟


"صاحب المال جبان". حقيقة لم يكذبها الواقع عبر التاريخ. التاجر يعرف كيف يستثمر وأين، هو يدرك اللحظة المناسبة التي يرمي فيها شباكه ليزيد رصيده. هو أيضاً طمّاع. التاجر يعرف أن الشعوب العربية والإسلامية جاهزة على الدوام للموت في سبيل تاريخها. هو يدرك أننا لا زلنا نقدّس تراثنا، وأن استحضاره بسهولة يمكنه سفك دمائنا وخلق الفتنة بيننا كلما احتاج لذلك. هو يعرف أننا أبناء طوائف لا أوطان، والعصبية الدينية والمذهبية داخلة في جيناتنا. التاجر يقرأ أيضاً. لا ليفهم وإنما ليربح. هو يستثمر في حجارة قبور السلف لأنه يعلم أنها لا تزال تتحكم بحاضرنا وأنها هي التي ترسم مستقبلنا. التاجر لا يعنيه من التاريخ سوى اللعب بين ثغراته، وما أكثرها، لتصبح الرّبحية مضمونة والزّاد وفير.


إذاً، لم يكن يحتاج الأمر أكثر من إعلان بسيط عن اسم "معاوية" كمسلسل تلفزيوني لشهر رمضان.


حلقات المسلسل قد لا تتجاوز الشهر الفضيل، لكن الله وحده، يعلم أين ستتوقف تداعياته. فمع أول إشارة تسويقية له انطلقت حمّى الإثارة والتّحزّب على مواقع التواصل الاجتماعي، واتخذ "الأنترنتيون" مواقعهم وكأنهم على جبهات معركة صفّين، فهذا من جانب يصيح وا عليّاه، وذاك من جانب آخر يصيح وا معاوياه، لتقرع رحى الولاءات والآراء والأفكار المسبقة الصنع دون أن ندري متى ستنتهي ولا كيف.


هي إذاً التجارة التي لم ويبدو أنها لن تبور حتى قيام الساعة في سوق هذه الشعوب المكلومة. الكلفة بسيطة لا تحتاج أكثر من هزّ مجرى التاريخ قليلاً لتحريك الركود واستثارة المشاعر الجيّاشة للجماهير، المُعلّبة أساساً، لتقف على أهبة الاستعداد من أجل خوض حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. لكن، كوننا أبناء التاريخ الأوفياء وأفئدتنا تحن وتئن إلى المجد السليل و أنه لا نجاة لنا إلا في التراث، فقد أقسمنا بأغلظ الأيمان للسلف الصالح وغير الصالح، بأن نبقى نحن أبناء القرن الحادي والعشرين، على العهد في حماية جهلنا وتخلفنا، وأكدنا لهم بأنه لن يكون لنا يد في بناء الحضارة الإنسانية ولا في صناعة مستقبلها. فنحن رهنّا أنفسنا  للتاريخ نهيم فيه وبأوهام ماضيه؟


مع هذه الشعوب الماضوية، سيظل معاوية بن أبي سفيان قادراً على تحريكها، وسيستمر صولجانه في إدارة جيوش الفيس بوك ووسائل الأنترنت في أي اتجاه يميل، وسيبقى أول خلفاء بني أمية الذي فارق الحياة قبل أكثر من 1300 عام يمتلك كل أدوات تجديد إشعال الحرب.


ما نرجوه الآن، هو أن لا يكون نصّ المسلسل محرّضاً جديداً للفتنة كي لا نعتقد أن الساعة قد أزفت، فنشحذ سيوفنا وننزل بها إلى ساحات الوغى للدفاع عن معاوية أو لمحاربته.
التداعيات الأولية التي يمكن قراءتها بعد حلقات المسلسل الأولى، تؤكد بشكل قاطع أننا شعوب تجتر تاريخها وتراثها، وأننا غارقون حتى الأذن في أدق تفاصيل الماضي وشخصياته، وأن هذا التراث العجيب لا يزال يمتلك قدرة هائلة على تحريك الشارع رغم تباعد الزمن واختلاف المعايير. وأن شعوبنا لم تدرك إلى الآن، مع الأسف، أنها لا تملك أي شكل من أشكال البنى المعرفية سوى التي تقدمه لها صفحات التاريخ والتراث، ففيه المجد الزائل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكل ما عداه لا قيمة له.
لذلك نحن لا نطالب بإجراء قطيعة مع هذا التراث، لكن على الأقل أن نعيد دراسته بدقة ومن وجهة نظر علمية وتاريخية وليس كنص مقدّس، وأن نعيد قراءة كل شخصياته، على أساس منهج أكاديمي مثلما نقرأ غاندي وكما نقرأ لينين وجون كينيدي وشارل ديغول وصدام حسين، وياسر عرفات، وغيرهم من الأسماء التي كان لها دور في التاريخ، أن نقول إن خلفاء المسلمين لهم الحق بأن يخطئوا مثلما لهم الحق بأن يصيبوا كأي حاكم على وجه الأرض، أن نذكر محاسنهم ونشير إلى مساوئهم بكل راحة بال ودون خوف، وأن نُعلّم أبناءنا في المدارس "كلٌّ يُؤخَذُ من قوله ويُردُّ عليه"؟
 
لم يعد أمامنا الكثير من الوقت، ولا بد من تغيير هذه الثقافة الجمعية بمشاريع فكرية تؤسس لبنيات معرفية جديدة يمكن البناء عليها بحيث تأخذ مسارها في تجديد الوعي الجمعي ككل.
 
إلى أن يأتي مثل هذا اليوم الذي نرجوه غير بعيد، علينا الاعتراف بأنه لا يزال رجل الدين أهم من أي مثقف عربي مهما علا شأنه، ولا يزال الإمام الذي يعتلي المنبر يحظى بشعبية كاسحة تعلو كل شعراء الحداثة وما بعدها. ولا يزال تعاطي عقولنا مع معارك صفين والجمل بذات الحماس وذات الجهل. وإلا كيف يمكن لمسلسل مثل معاوية أن يفعل فعله هذا وهو الذي لم يُعرض منه سوى البدايات؟.

ليفانت: بشار عبود

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!