-
أردوغان بين انهيار الرهانات واعتراف مؤجل بالكورد

لم يترك أردوغان بابًا إلا وطرقه، ولا تحالفًا إلا وارتداه، في مسعاه المحموم للقضاء على الحراك الكوردستاني، وقد ركّز في العقد الأخير على محاربة الإدارة الذاتية وقوات الحماية الشعبية، ثم انتقل تركيزه إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والتحالف الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.
تسلّق أردوغان جدران التاريخ بحثًا عن أعداء الأمس لعقد تحالفات ظرفية ومتناقضة، فتقارب مع روسيا، العدو التاريخي لتركيا منذ عهد القياصرة، مرورًا بمرحلة الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة، وصولًا إلى الصراع في القوقاز وملف الشيشان، كما امتد بجسده السياسي فتحالف مع إيران، متغاضيًا إرث العداء المذهبي المتجذر منذ عصر صراع الإمبراطورية الصفوية والعثمانية، ثم الحرب السنية-الشيعية المستترة. في الحالتين، تجاوز أردوغان كل صراعات التاريخ وقذارته، فقط لبناء جبهة ضد التحالف الأمريكي مع الكورد وقسد.
هاجم الوجود الأمريكي في شرقي الفرات بلا هوادة، وشتمها في خطاباته، ثم عاد يتذلل أمامها، مستجديًا صمتًا يُغض الطرف عن نواياه السوداء تجاه الكورد، مع ذلك، لم تواجهه واشنطن إلا بتصريحات دبلوماسية خجولة، باستثناء بعض الحزم في المرحلة الأولى من إدارة بايدن.
أقام أكثر من عشرين مؤتمرًا بين أستانة وسوتشي ظاهرها القضية السورية، لكن باطنها كان دائمًا مواجهة الحضور الكوردي وتحالفه مع أمريكا. ساند جماعات تكفيرية من داعش إلى ما يُسمّى بالجيش الوطني، وفتح الأبواب للمرتزقة والجهاديين من العالم الإسلامي لمحاربة قسد والإدارة الذاتية، وفرض على أغلبيتهم تناسي محاربة النظام المجرم في دمشق، وتنازل لإيران والنظام السوري مقابل التزامهم بمحاربة الكورد، لكنه فشل في تحقيق أهدافه رغم كل تلك المحاولات، فكان دائم الإعداد لخطة بديلة.
قدّم فروض الطاعة للولايات المتحدة مرات عدة، واستثمر كل ما لديه من أدوات دبلوماسية ولوبيات داخل أمريكا، لكن دون جدوى، قبل بشروط إسرائيل وأمريكا عبر إعادة تأهيل هيئة تحرير الشام، لتكون رأس الحربة ضد الوجود الإيراني، وتمكنت الهيئة بالفعل من إسقاط النظام وطرد الميليشيات الإيرانية من سوريا.
هذا النجاح أغرى تركيا على التمادي، فحرّضت أدواتها للهجوم على قوات قسد، لكنها حين أدركت أن ذلك قد يؤدي إلى خسارة أدواتها نفسها، ومعها الحكومة السورية الانتقالية، غيّرت منهجية الصراع، اتجهت نحو إقناع واشنطن بالتخلي عن الإدارة الذاتية لصالح حكومة الجولاني، ومن أساليبها إقناع سفير أمريكا إلى أنقره والمبعوث الخاص إلى سوريا ولبنان توماس باراك وفرض بعض الإملاءات عليه، ظنًا منها أن زوال الإدارة الذاتية، ودمج قسد في جيش النظام، سيسحب الشرعية عن الوجود الأمريكي في شرق سوريا، ويمهد لخروجها، وبذلك تسقط القضية الكوردية في سوريا، وتتمكن تركيا من السيطرة على كامل البلاد عسكريا، واقتصاديا، وسياسيا، وتمنع ارتداد تداعيات القضية الكوردية إلى داخل حدودها.
التهدئة الأمريكية-التركية التي تلت كل هذا الزخم لم تكن عبثية، بل كانت ذات خلفيات معقدة يدركها أغلب المراقبين السياسيين. إذ كانت إسرائيل وأمريكا تنتظران انتهاء تهديدات إيران وميليشياتها، وإضعافها إلى درجة تفقد فيها قدرتها على التأثير، تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، لذا وجدت نفسها مضطرة إلى التنازل عن خطابها العدائي، والعودة إلى معادلة طالما تهرّبت منها كل الأنظمة التركية، الاعتراف بالكورد كقومية، والجلوس مع ممثليهم كحقيقة سياسية لا يمكن طمسها، حتى وإن كان ذلك مموّهًا بإعلام الانتصار على الإرهاب، لكنها عمليًا قبلت الكثير، بدءًا من الحوار بين رئيس الجمهورية وقائد كوردستاني معتقل، وصولًا إلى تفاهمات غابت تفاصيلها عن الإعلام، ولكنها ستظهر عاجلًا أم آجلًا.
ولولا العنصرية المتجذرة في بنية الدولة التركية، وخوف أردوغان من الشارع الذي تشرّب العداء للكورد، لوفرت على تركيا قرنًا من العنف والدمار، ولجأ منذ زمن إلى ما يدركه جيدًا، أن ما تنفقه تركيا على محاربة الكورد، لو أنفقته على السلام والمصالحة، لكانت اليوم من بين أكثر الدول تطورًا في العالم حضاريًا واقتصاديًا واجتماعيًا، لكنها بدأت اليوم تخطو نحو هذه الحقيقة، على استحياء، وتقبلت بصعوبة الحوار مع شعبٍ حُرم من مجرد التلفظ باسم وطنه، كوردستان.
إذا صدقت نوايا حكومة العدالة والتنمية، ولم تراوغ كما اعتادت، وإذا حصل الشعب الكوردي على حقوقه القومية، حتى ولو على شكل فيدرالية تُكرّس في الدستور التركي ويقرّها البرلمان، فإن تركيا قد تتحول إلى دولة نموذجية، بتفعيل طاقات الشعب الكوردي، وبثروات كوردستان، في بناء وطن يتمنى الجميع العيش فيه. وإن لم تفعل، فمصيرها سيكون كمصير باقي دول الشرق الأوسط، التي تتجه نحو التفكك والانهيار، تحت وطأة التغيرات الجيوسياسية التي تدركها حكومة أردوغان والأحزاب القومية التركية جيدًا، وتحاول سباق الزمن وتسارع الخطى علّها تتفاداها، ولو عبر نصف اعتراف ونصف شراكة مع الحقيقة التي طالما أنكروها.
إن لم تتصالح تركيا مع حقيقتها الكوردية، ستنهار تحت ذات الجدران التي رفعتها لإنكارهم، فالدولة التي تتهرّب من تاريخها، وتخشى اسم "كوردستان"، لن يكون لها مكان في خرائط الغد. ستبتلعها التغيّرات كما ابتلعت دولًا كانت أعظم منها، وسيكتب التاريخ أن عناد الإنكار أسقط إمبراطورية جديدة، قبل أن تولد.
د. محمود عباس
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!