الوضع المظلم
الجمعة ٠٧ / مارس / ٢٠٢٥
Logo
سوريا... سباق الإرادات
نزار غالب فليحان

سوريا... سباق الإرادات

 

دخلت سوريا بعد الثامن من كانون أول العام الفائت -يوم تكلل نضال الشعب السوري بإسقاط نظام الأسد- ورشة عمل تكاد تكون الأكبر زماناً ومكاناً، وهي إن دخلت هذه الورشة فإنها دخلت كذلك دوائر الشك واليقين، الحيطة والإقدام، التفاؤل والتشاؤم، دوائر صراع أفكار ورغبات وتطلعات على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة في لحظة فارقة من عمر سوريا.

وعلى استمرار مشهد الفرح بحرية لطالما حلم بها السوريون، إلا أنه ظل فرحاً مشوباً بالكثير من العوز والفقر والفاقة لشعب وجد نفسه أمام دولة خاوية نهبها مستبد أحمق كان همه الوحيد قتل البشر وحرق الشجر وتدمير الحجر وسرقة مقدرات دولة سطا عليها هو وعائلته وزمرته الفاسدة بمباركة دولية وإقليمية وعربية لقمع ثورة شعب طلب حرية خشي محازبوه من امتدادها إلى شعوبهم، فوقفوا إلى جانبه، ومنهم من شاركه القتل والتدمير إلى أن شُتِّتَ شمل السوريين وشُيْطِنَتْ ثورتهم.

لكن سوريا تحررت نهاية الأمر وبتكلفة لم يكن أشد المتفائلين يتوقع أنها تكاد تكون معدومة، وهرب المجرم سارقاً كل ما خف وغلا، تاركاً خلفه أيتاماً حائرين واجمين خائبين، وخائفين، لتبدأ مرحلة جديدة لم يكن سائر السوريين يتوقعونها لأن الإدارة التي أنجزت الأمتار الأخيرة من التحرير كانت موضع ريبة كان لا بد أن تبددها عبر تطمينات بدأت تظهر إعلامياً عبر سلوك وتصريحات الغالبية العظمى من عناصرها للخارج والداخل يوماً بعد يوم ليبدأ الاعتراف العربي والإقليمي والدولي يطفو على السطح مع كل لقاء وكل زيارة وكل مؤتمر.

لكن الشعب الذي تجرأ يوماً على الحلم وأعلن ثورته على نظام لا يفهم إلا لغة القتل، الشعب الذي قدم ثمن حلمه الملايين من الشهداء وضحايا الاعتقال والتغييب القسري والهجرة والنزوح، على فرحه بالتحرير، بدأ يتلمس واقعه، وبدأ مزاجه يهدأ ويتجه نحو ساعة الحقيقة، ساعة البناء والعودة إلى الحياة، الحياة التي لا يمكن أن تتحقق عبر الخطابات والوعود والتطمينات، ولا الابتسامات والاستعراضات ومحاولات تسويق الوضع الداخلي على أنه في تحسن مستمر سوف يفضي إلى إرضاء غايات الشعب البسيطة أولاً (مأكل – مشرب – مسكن) وهي حاجات في حدها الأدنى.

ولا أظن أن الإدارة الحالية فاتها أن هذا الشعب السوري عرف طريق التغيير، هذا الشعب الذي شَكَّلَ -رغم التصحر السياسي الذي فرضه النظام المجرم- قوىً عديدة مَثَّلَتْهُ قبل تشكل الفصائل الجهادية، قوى قوامها (نشطاء التنسيقيات والثورة السلمية والمجتمع المدني والجيش الحر ومؤسسات وكيانات المعارضة المختلفة واللوبيات الإنسانية والحقوقية والسياسية التي انتشرت على خارطة العالم)، وكل هذه الكوادر كانت بكامل وعيها السياسي والوطني حين أعلنت ثورتها، ثم ما لبثت أن احتكت في مهاجرها بتجارب شعوب حققت ومارست الديموقراطية على مدى عشرات السنين، فعادت إلى الوطن قادرة مدركة خبيرة معززة بعزم كبير على الحرص على عدم تكرار تجربة نظام حرمها حريتها وكرامتها طيلة عقود، ما يؤكد أن هذا الشعب لن يتردد ساعة فقدان الأمل بهذه الإدارة في تكرار ما فعله في الثامن عشر من آذار العام 2011، ولا نظنَّن أن لحظة "الانقياد خلف الغالب" ستطول، ولا نظنَّن أن الإدارة قد ضمنت أكثرية الشعب السوري لأن تلك الأكثرية هي أكثرية معاناة وكفاح من أجل البقاء، أكثرية قَضَّتْ مضجع النظام الساقط عندما صرخت "الشعب السوري واحد"، وتستطيع أن تَقُضَّ مضجع أي سلطة لن تحقق الأهداف التي ثارت من أجلها واستطاعت هذه الأكثرية أن تبرهن أن قوةَ الجماعة تُسْقِطُ جماعةَ القوة.

من هنا تبرز أهمية أن تسرع الإدارة الحالية إلى فرض الأمن على كل المساحة السورية، والقضاء على "الأخطاء الفردية" التي تكررت وتتكرر، ووقف استباحة المعتقلات، والتنفيذ الفعلي لحل الفصائل نحو تأسيس جيش تقليدي يمثل سوريا بكوادر من كافة فئات الشعب السوري، كما أن عليها معالجة معضلة عدم دفع رواتب للموظفين، والنهوض بالمستوى المعيشي وضبط قيمة الليرة السورية.

ولا يمكن أن ننسى أن على الإدارة الحالية وضع سياسة إعلامية ثابتة وتفعيل مرافق ومنصات الإعلام السوري الرسمي ولجم انفلات هواة المهنة أصحاب المنصات غير الرسمية عبر سن قوانين تمنعهم من الإدلاء بتصاريح وأخبار تخص الدولة وتمنع التصريحات العدائية من كافة الأطراف وتمنع كذلك بث كل ما من شأنه نبش الأحقاد والتحريض على الثارات والاقتتال تمهيداً لإرساء مبدأ العدالة الانتقالية الذي لم يعد لغزاً مع توفر كوادر قانونية سورية كثيرة لديها باع طويل في هذا الشأن، الكوادر التي لم ولن تتوانى في بذل كل قدراتها في هذا المجال وهي التي وقفت منذ اليوم الأول للثورة مع الشعب ولم تبخل حتى بأرواحها.

إن مصير سوريا اليوم مُعَلَّق بين إرادتين، إرادة الشعب التي اخْتُبِرَتْ ونجحت وإرادة الإدارة الجديدة التي مازالت على المحك، وإن أي مسوغات أو تسويق لعوائق ذاتية أو موضوعية لم يعد سبباً مقنعاً في عدم تحقيق أهداف الشعب السوري، لأن على من تصدى لإدارة سوريا أن يحقق المعجزات -أجل المعجزات- لشعب بذل في سبيل تحقيق معجزة إسقاط النظام أغلى ما يملك.

 

نزار غالب فليحان

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!