Dark Mode
Thursday, 17 July 2025
Logo
The sway of history and the duality of hegemony at the heart of the Middle East
Dr. Mahmoud Abbas

لعلّنا نتساءل بجرأة، بعيدًا عن ضجيج التحليلات المعاصرة: هل الصراع الإيراني الإسرائيلي امتدادٌ صارخٌ لصراعٍ متجذّرٍ بين الإسلام واليهودية قائمٌ منذ أول لقاءٍ في المدينة المنورة؟ هل الدعم الأمريكي والأوروبي لإسرائيل مجرد استمرارٍ لوجهٍ آخر من وجوه الصراع المسيحي اليهودي الإسلامي؟ مع أن مظاهره قد تكون قد تغيّرت، إلا أن بنيته الأساسية لا تزال قائمة، بصراعاتٍ روحيةٍ وعقائديةٍ مُغطّاةٍ بأقنعةٍ جيوسياسية، تُدار تحت رايات "حقوق الإنسان" و"الشرعية الدولية". ومع ذلك، فإن جوهرها ليس سوى امتداداتٍ لصراعاتٍ دينيةٍ وإمبرياليةٍ متجددة.

لم يصمت تاريخ الشرق الأوسط، الممتد منذ عصور سحيقة، قط؛ بل كان يئن دائمًا تحت وطأة إمبراطوريات تعاقبت تحت رايات "الخلاص" و"الإيمان" و"الرسالة". ومع بزوغ الإسلام من أعماق شبه الجزيرة العربية، بدا المشهد انفجارًا في قلب العصر الإمبراطوري: سقوطٌ دراماتيكي للإمبراطورية الساسانية، وانحدارٌ مُخزٍ للإمبراطورية البيزنطية، وتدمير حضارتين، وتوسعٌ مذهل للإسلام والفتوحات العربية.

لكن هل انتهت الإمبراطوريات حقًا؟ 
فرض المسلمون العرب لغة القرآن، وألغوا العملات الساسانية والبيزنطية، وقهروا الديانات المحلية كالزرادشتية والمندائية والمانوية، ودفعوا المسيحية واليهودية إلى حافة التهميش. ومع ذلك، لم يتحرروا من جذورهم الروحية العميقة. تمكّن الفرس - الذين أصبحوا يُعرفون بـ"العنصر الإيراني" - من سرقة روح الإسلام من العرب بمكرهم العقائدي، واضعين أسس نموذج الدولة الصفوية اللاحقة. غلفوا أنفسهم بالإسلام ليستعيدوا السيطرة على العالم العربي بالوكالة عن الصفويين الشيعة، مستردين، تحت ستار ديني، ما فقدوه من سيادتهم الوطنية.

وهكذا، كان التشيع، وخاصةً في شكله الصفوي، أداةً لإعادة تأكيد الهيمنة الفارسية، كما حذّر مفكرون كثر، مثل الدكتور علي شريعتي، من "التشيع الصفوي" باعتباره تحريفًا سياسيًا للرسالة الجوهرية العلوية/العلوية. ورغم خلافات بعض المؤرخين حول النسب، لم يكن الصراع الجوهري دينيًا فحسب، بل كان إعادة تشكيل للبنية الروحية للإسلام لخدمة مشروع استعادة الهيمنة الساسانية. ومن المثير للاهتمام أن الدولة الصفوية التي جسدت هذا التحول لم تكن فارسية خالصة، بل كانت في المقام الأول من أصول تركية آسيوية، تتحدث الفهلوية - وهي لغة مختلفة تاريخيًا عن الغزنويين الفارسيين ثقافيًا، الذين تبنوا ملحمة الفردوسي، الشاهنامه، كمشروع ثقافي وطني.

وفي هذا السياق، كان التشيع في ظل النظام الصفوي عبارة عن بناء ثقافي هجين، محمل بأدوات دينية لخدمة مصالح الدولة، ويعمل من خلال تحالف بين التفسير الديني والدولة القومية ــ وهي الصيغة التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا في النظام الثوري في إيران.

أما الإمبراطورية الغربية، فمع تراجع حضارتها على ما يبدو بعد تراجع الانتداب والاستعمار، استمرت في تحريك خيوطها خلف الكواليس. ومن بين مشاريعها دعم إسرائيل كامتداد تلمودي لمشروعها الثقافي والديني، محاصرةً المنطقة بحلفاء يحمون مصالحها ويعيدون إنتاج تبعيتها - حيث تصطدم الحداثة والحضارة غالبًا بالإسلام السياسي، وخاصةً في إيران.

في هذا المشهد السريالي، يبدو أن الشعوب العربية والإسلامية قد فقدت دورها المحوري. فرغم أن أرضها لا تزال محور صراع، إلا أنها تُستغل وتُستدعى وتُتحدث باسمها، لكنها ليست من يكتب السيناريو النهائي. والأغرب من ذلك أن الدول العربية - التي استعادت رسميًا جزءًا من سيادتها بعد تقسيم الدولة العثمانية من قبل بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سايكس بيكو - لم تكن يومًا سوى أدوات في صراعات أكبر. لم تُمنح سيادتها المزعومة كحق تاريخي، بل كانت مرحلة انتقالية مهدت لانهيار الإمبراطورية العثمانية، التي طالما تسترّت خلف رداء الإسلام واحتكرت تمثيلها باسم الخلافة.

رغم تأكيدها على القرآن الكريم كهوية جامعة، وسعيها الدؤوب لفرض ثقافتها على شعوب المنطقة غير العربية، لم تنعم هذه الدول قط بسيادة روحية كاملة. ولا تزال أسيرة مرحلة تقاطعت فيها ثلاث قوى عظمى - فارس، وبيزنطة، واليهود - وتركت تأثيراتها آثارها. لم تكن هذه القوى أصل الصراع، بل كانت قناته الحية - كيانًا تُعبَّر من خلاله عن هذه الصراعات، مع وجود مراكز قرار دائمًا خارج أسوارها.

لذا، فإن الصراع الإيراني الإسرائيلي ليس مجرد صراع على النفوذ أو القدرة النووية، بل هو تعبير متجدد عن صراعات قديمة تُدار بأدوات معاصرة. إيران، رافعةً لواء الإسلام الشيعي، تُحيي الطموح الساساني من جديد، بينما تُجسد إسرائيل معاناة يهودية تحولت إلى مشروع إحياء استيطاني توراتي، مدعومًا بنصوص سماوية، ومدعومًا بقوى عالمية ذات روابط تاريخية بالشرق.

هنا، تتقاطع العقيدة والجغرافيا؛ وتُستَذكر الأساطير القديمة كقرارات سياسية. الصراع ليس على الأرض فحسب.