-
الخبز الحافي... "محمد شكري" رحلة البحث عن الذات

كعادتي عند الانتهاء من قراءة كتاب أن أمهر صفحته الأولى بختمي الشخصي كي أتذكر ذاتَ نسيان أنني قرأته، وكذلك كي أؤكد أن اقتنائي له على رفوف مكتبتي كان تحت وطأة لوثة القراءة وليس من قبيل لوثة الاقتناء.
لكن مع نص "الخبز الحافي" للروائي "محمد شكري" شعرت أنني لم أنهِ قراءة رواية بل إنني شرعت باستعادة معرفة ستة عقود شكَّلَت هذه الرواية فصلاً من فصولها.
بنى محمد شكري سرديته في ثلاثة عشر مشهداً، ومن خلال تسلسل زمني متسق، بحرفة وحنكة روائية كانت أبعد ما يمكن عن التوثيق، بل هو استطاع أن يصرف القارئ عن حقيقة أنه كان يحكي حكايته إلى الانغماس في قراءة حكاية شديدة الواقعية تتقاطع شخصية بطلها مع حكايات شعب وربما شعوب، حكاية مفتوحة على الملايين من الشخوص، الفارق الوحيد فيها أن محمد شكري صَرَّحَ أنها سيرته الذاتية التي عرض من خلالها فصلاً مفصلياً من سردية الصراع على التراب العربي، ومن خلال عرضه الصادق والشفاف لبحثه عن ذاته كفرد مهمش في عالم ازدحمت الدنيا فيه وعليه عرض بحث العرب عن ذاتهم الجمعية في فضاء دولي اتفق على سلبهم تلك الذات وتشويهها أو إعادة بنائها وفق النمط الذي يراه مناسباً له من خلال سلبهم أرضهم وبعثرة مقدراتهم في مقدمة لإنهاء وجودهم على المستويين البشري والجغرافي.
في "الخبز الحافي" لم يتردد محمد شكري في ذكر أكثر تفاصيل نشأته إيلاماً مهما بلغت من الفقر والمعاناة والشذوذ والذل والرذيلة حَدَّ الشيطنة، بلغة جريئة صادمة للثقافة العربية السائدة ثائرة على كل موروث أو مألوف أو مَرْضِيٍّ عنه.
أخيراً وبعد مخاض عشرين عاماً، عثر محمد شكري على ذاته، آمن أن سيكون مختلفاً مهما كانت النتائج، حقيقياً مهما كانت الظروف، ثائراً مهما كانت العقابيل، تجلى ذلك حين ختم الرواية في المشهد الأخير قرب ما يظنه قبر شقيقه الطفل الذي قتله أبوه في لحظة غضب لخصت عذابات ذلك الجيل وتلك المرحلة، عندما كان في المقبرة ينثر الورود هنا وهناك ظاناً أنها قد تصيب قبر أخيه مستذكراً قول الشيخ الذي دفنه:
"أخوك الآن مع الملائكة" ليختتم الرواية قائلاً:
"أخي صار ملاكاً. وأنا؟ سأكون شيطاناً، هذا لا ريب فيه. الصغار إذا ماتوا يصيرون ملائكة والكبار شياطين. لقد فاتني أن أكون ملاكاً"
هذا هو محمد شكري، الكائن الذي خرج من المستحيل إلى الواقع، من الخرافة إلى الحقيقة، من الوهم إلى اليقين، ومن الموت إلى الحياة، كعشبة غضة في صحراء جرداء، وكبصيص ضوء ظل يلوح في آخر نفق مظلم حتى انبلج ضياءً.
لم يحمل محمد شكري في طفولته الشقية بذور وعي، ولم تسعفه الحياة بعلم ولو كان قليلاً، ولم يسعفه القدر بفرصة أن يحلم، بل كان رهين العيش المر المفعم بالظلم والظلام، الفقر والعوز، السطوة والتهميش، كان زاده حبه للحياة وتعلقه بها، الحياة التي لم يدعها تمر دون أن يلتهم كل لحظة فيها التهام الجياع، خضع ثم ثار، انزوى ثم حَلَّقَ، اُسِرَ ثم انعتق، جهل ثم بدأ يتلمس طريقه إلى المعرفة.
امتدت الرواية على عشرين عاماً لم يخل يوم واحد فيها من مغامرة خاضها شكري كان يمكن أن تودي به، عشرون عاماً عاشها في محيط مليء بالفساد والرذيلة، بين أزقة ومقاهٍ ومواخير، مارس كل تفاصيلها غضّاً، ومع كل حدث تعرض له أو اقتحمه كان يخرج بدرس سيكون ذخيرته في قابل الأيام.
إن رواية "الخبز الحافي" هي رواية أولئك الذين تشكل وعيهم من تجارب حية حقيقية مؤلمة خارج صفحات الكتب، بعيداً عن حذلقة المفكرين وتأويلاتهم وتلقينهم المقيت، ملتصقاً بالواقع معجوناً بالتراب، لتأتي الكتابة عنها تالياً بكل هذا الصدق وبكل هذا الألم فتشكل نمطاً آخر من التوعية، نمطاً لا زيف فيه ولا تأطير.
ولا يتوانى محمد شكري عن التصريح بذلك من خلال كلمته الموجزة التي افتتح بها روايته والتي أنهاها بقوله:
"يخرجُ الحَيَّ من الميِّتِ.
يخرج الحَيَّ من النَّتِنِ ومن المتحلِّلِ. يُخْرِجُهُ من المُتْخَمِ والمُنْهارِ... يُخْرِجُهُ من بطون الجائعين ومن صُلْبِ المُتَعَيِّشينَ على الخُبْزِ الحافي".
ليفانت: نزار غالب فليحان
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!