-
الكورد وتركيا عند مفترق التاريخ: هل تجرؤ أنقرة على السلام؟
الكورد وتركيا عند مفترق التاريخ: هل تجرؤ أنقرة على السلام؟
الكاتبة - زينه عبدي
في اللحظة الفارقة والتاريخية إقليمياً، التي تتزايد فيها التغيرات والتحولات بلغة تصفية الحسابات أو مصبوغة بصبغة التسويات الجارية الراهنة سواءً نحو التهدئة أو التصعيد، لا يزال مسار عملية السلام بين الكورد وتركيا غارقاً في حالة صمت وهدوء حذر، رغم إقدام حزب العمال الكوردستاني (PKK) على خطوتين تعتبران الأجرأ في تاريخها نحو السلام، في محاولةٍ تاريخية لطي صفحة الماضي والبدء من جديد للدفع نحو مسار السلام مع تركيا، إلا أن أنقرة وإلى اللحظة لا تبدي أية خطوات من شأنها استثمار هذه الفرصة والتخلص من دوامة العنف التي استمرت لأكثر من أربعة عقود. بين الموقف التركي الصامت والمبادرة الجريئة للكورد يتبادر إلى الأذهان: لماذا تعجز تركيا عن تحويل هذه الفرصة التاريخية إلى واقع سياسي حقيقي يضمن المواطنة والحقوق المشروعة للشعب الكوردي بدلاً من الحرب والصراع؟
عقدة السياسة التركية
تتعمق جذور الأزمة التركية والمآزق المرتبطة بها في هوية الدولة التركية بعينها. فقد تأسست الدولة التركية منذ سنة 1923 على أساس الدولة الواحدة الذي أقصى أي وجود كوردي لغوي وقومي على أراضيها. لا يزال الاعتراف بهذا الوجود يشكل خطراً على الجمهورية التركية كما تدعي، رغم مضي أكثر من قرن كامل على تأسيسها. تتهم تركيا أي محاولة كوردية للمضي قدماً نحو السلام وبناء دولة تعترف بالتعدد بالانفصال والتقسيم عوضاً عن النظر إليها كفرصة حقيقية وجادة لتصحيح منهجية السلام بين الطرفين بما لا يتعارض مع مبادئ الحقوق والمواطنة.
وفي ذات الإطار، منذ فشل عملية السلام في الداخل التركي عام 2015، بات الملف الكوردي وسيلة انتخابية في تركيا. حيث خشية السلطات الحالية من انزعاج التيارات القومية المتشددة والحليفة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان من إبرام أي تفاهم أو فتح صفحة جديدة مع الكورد. لذا صار ملف السلام معادلة سياسية رهينة المسارات الانتخابية، ولا يمكن لتركيا التطلع إليها أنها مشروع وطني جامع، ما يعزز فكرة بقاء أنقرة أسيرة خطاباتها الأمنية التي تزيد من تصعيد الأمور وجعلها أشد تعقيداً بخصوص الملف الكوردي.
وفي المقابل، المنطق السياسي يفرض على عقلية الأمن التركي توسيع أفقها نحو سلام مستدام مع القضية الكوردية وليس التفرد بها أو تهميشها في كل مبادرة تعتبرها الدولة التركية حيلة تكتيكية من قبل حزب العمال الكوردستاني، وتتصرف معها بإطار عسكري بمنأى عن كونها قضية شعب أصيل ذي حقوق وواجبات، ما يعمق وباستمرار صدع الثقة بين الجانبين.
ومن جانب آخر، ترى تركيا أن أي تفاهم مع الكورد في الداخل التركي سينعكس عليها سلباً، لأنه سيؤدي إلى تقوية الملف الكوردي إقليمياً لا سيما في سوريا وإيران والعراق وعلى وجه الخصوص تجربة الإدارة الكوردية في روجآفايي كوردستان(شمال وشرق سوريا)، وهذا ما يقلقها على الدوام بوصفها مسار لا يخدم مصلحتها الاستراتيجية بل تخشى تحولها إلى مطلب جدي من قبل كورد تركيا فيما يتعلق باللامركزية إدارياً كان أو سياسياً.
ما بعد مبادرة الحزب
إقدام حزب العمال الكوردستاني على خطوتين جريئتين للحوار والسلام لا يمكن اعتبارهما بمثابة مناورة ضمن الأطر السياسية كما يروج لها الإعلام التركي الرسمي، وإنما تمثلان تغييرا جادا وحقيقياً في مقاربة الحزب لطبيعة النزاع القائم، فالحرب قد استنزفت الجميع، لذا يبتعد عن كل ما يمكن اعتباره تكتيكات مرحلية ويستثمر في مسار السلام كونه أكثر وأشد الخيارات استراتيجيةً.
لا تزال أنقرة تتعامل مع هذه الخطوة الداعية للسلام بعين الريبة، دون التفكير بعقلية الدولة والسيادة الراشدة، والدليل أنها كثفت من ضرباتها العسكرية في شمال العراق وسوريا بدلاً من الوساطة المدنية أو السياسية لإثبات ذاتها كما السابق غير آبهة بضياع الفرصة والثمن الذي قد تدفعه.
الوضع الإقليمي اليوم والصراعات الدائرة تفرض على الجميع تسليم أمورهم لميزان الحكمة والتهدئة والسير كما يقتضيه الواقع، وهذا ما يريد الكورد فعله مؤكدين أن هذه الفرصة هي نتيجة ما تم ذكره وليس وليدة فراغ. لذا على تركيا اليوم إحكام العقل السياسي فيما يخص الملف الكوردي لتخفف عن كاهلها، على أقل تقدير، ثقل الضغوط الإقليمية والدولية، إلا أنها تختار وبإصرار تام إبقاء المسألة الكوردية دون حل بوصفها خسارة مميتة لسيادة الدولة التركية لأنها تعتبر الحل والسلام مع الكورد هو تنازل وليس تفاهما ومصالحة.
وفي السياق ذاته، فإن الكورد يعتبرون عملية السلام مع الدولة التركية ركيزة أساسية لملف الاستقرار والتوازن الإقليمي لا سيما في سوريا والعراق، خلافاً لما تعتقده تركيا أنها شأن داخلي ولا تأثيرات جانبية على الجوار، وهنا يبرز السؤال بالغ الأهمية: متى ستدرك أنقرة وتستيقظ أنه قد حان وقت خروجها من عزلتها الداخلية والإقليمية، وتحول كافة قواها العسكرية إلى قوى سياسية ومدنية؟.
ثقافة التزلف.. مرض المجتمعات المأزومة بالسلطة
الخيارات التاريخية أمام أنقرة
الآن وفي حضرة الظروف والمشهد الإقليمي الراهن، لم يعد بإمكان تركيا أن تكون اللاعب الأشرس وعلى حافة الصراعات والنزاعات. فالمشهد كما نلاحظ في تغير مستمر وملف القضية الكوردية صار جزءً لا يتجزأ من محور التوازنات الممتد من شمال شرق سوريا إلى جبال قنديل.
تركيا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما والخيار الذي ستختاره هو من سيحدد شكل دولتها لمئة عام قادمة: إما التحرر من إرث الجمهورية الأحادية والمضي قدماً باتجاه عملية السلام والاعتراف الدستوري والقانوني بحقوق الكورد، أو العناد في فرض القوة العسكرية التي ستغرقها في مستنقع العزلة والإنكار الإقليمي والدولي.
فالقوة التي تُنشأ على الاعتراف بالتنوع والمواطنة والمشاركة الحقيقية هي القادرة على إعادة إنتاج المفهوم الحقيقي للدولة الحديثة، لذا فإن أنقرة اليوم على مفترق تاريخي: أن تظل أسيرة الماضي، أو المضي بخطوة واحدة فقط وبشجاعة نحو مستقبل تصنعه بإرادتها عبر الاحتكام إلى السلام مباشرةً.
أخيراً، أقول أن التاريخ لا يرحم المتردد، وسيكون المستقبل لمن يجرؤ على مبادرة السلام والمضي نحوه بحكمة وعقل ناضج، حيث سيسرد التاريخ خطواته الحقيقية ويخط اسمه الذي بني على شجاعة الاعتراف لا على استمرار الإنكار. وبين الماضي والمستقبل يظل السلام هو أصعب القرارات وأشجعها على الإطلاق.
ليفانت - نيوز
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

