الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٢ / أبريل / ٢٠٢٥
Logo
سوريا.. والجمهورية المنتظرة 
عزالدين ملا

بعد ما يقارب عقد ونصف من الحرب والتشظي والخذلان، وبعد أن استُنزفت الجغرافيا وتفتتت الروح، سقط بشار الأسد كأنّه خريفٌ تأخر كثيراً عن موعده، تاركاً وراءه بلاداً تبدو كأنها خرجت للتو من كابوس طويل، تحمل آثار القصف على جدرانها، وآثار الصمت على وجوه ناسها. لم يكن هذا الرحيل مجرّد انتقال في السلطة، بل لحظة نادرة في التاريخ السوري، لحظة توهّم فيها البعض أن النهاية كتبت أخيراً لفصل القهر، وأن فجراً جديداً قد يلوح بعد ظلمة دامت طويلاً.
   

تشكّلت حكومة انتقالية، خطوة طالما طال انتظارها، حلمٌ شاحب لم يكن يُفصح عن نفسه إلا في حناجر المعتقلين، وأحلام المنفيين، ورسائل الأمهات إلى الغائبين. حكومة تعهّدت أن تكون لكل السوريين، لكن في نفوسهم ما يكفي من الوجع ليجعلهم يتساءلون، هل هذه بداية الخلاص، أم فصل آخر من الخديعة؟ السوري الذي نجا من المجازر والسجون والمنافي، لم يعد يقيس الأمور بالكلمات، بل بالأفعال. يريد دولة تحميه لا تراقبه، العدالة، الكلمة التي لطالما طُبعت على اللافتات، ورفرفَت كأملٍ هش في وجه الطغيان، صارت اليوم المعيار الحقيقي لأي بداية. لا عدالة إن لم تتضمن اعترافاً صريحاً بما جرى، لا عدالة دون محاسبة من قتل وعذّب وشرّد، لا عدالة إن لم يُنصف الكورد الذين مُنعوا من لغتهم، ولا العرب الذين دُفعوا إلى الجبهات قسراً، ولا السريان الذين تآكلت ثقافتهم في الظل، ولا الإيزيديين الذين خطفهم الرعب من بيوتهم، ولا العلويين الذين خُدعوا بشعارات النظام ثم دُفعوا كدروع بشرية لحمايته. العدالة التي نطلبها ليست انتقاماً، بل شفاء. عدالة تبني ولا تهدم، تصالح دون أن تنسى، تُساوي بين الناس لأنهم بشر، لا لأنهم ينتمون لفئة محظية أو مذهب مقبول.
 

السؤال الذي يهمس في ضمير كل سوري اليوم، هل يمكن للبلاد أن تُلملم أشلاءها وتبدأ من جديد؟ كيف لبلد تقطّع جسده بين قوى الأمر الواقع أن يستعيد روحه؟ وكيف يمكن لمجتمع مكسور أن يثق مجدداً بمصطلحات كادت تُفقد معناها، المصالحة، السيادة، الوحدة الوطنية؟ الحقيقة أن إعادة إعمار الإنسان أهم من إعادة بناء الجدران. فبينما يُمكن إسمنت الطرق، فإن ردم الفجوة بين الناس يحتاج إلى عدالة، ومصارحة، واعتراف متبادل بالألم، واحترام متبادل للحقوق.
ومع ذلك، فالواقع لا يُدار بالأمنيات وحدها. سوريا اليوم ليست صفحة بيضاء نبدأ منها من جديد، بل لوحة ممزّقة تُركت تحت المطر لسنوات. نحن أمام دولة محطّمة، وجيش ممزّق الولاء، ومجتمع انقلب على نفسه، ومؤسسات مفرغة من معناها.


الجرح لم يكن سياسياً فقط، بل إنسانياً عميقاً. عشرات الآلاف قُتلوا بلا محاكمة، مئات الآلاف في السجون، ملايين في المخيمات، أطفال نشؤوا بلا آباء، ومدن محيت عن الخريطة. كيف يمكن بناء وطن من هذه الأنقاض؟ كيف يمكن إعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها وقد تأسست لعقود على الخوف والإذلال؟
  في قلب هذا المشهد، يبقى الأمن، المطلب الأبسط والأعمق. السوري اليوم، أيّاً كان انتماؤه، لا يريد سوى أن ينام دون خوف، أن يتحدث بلغته دون قلق، ألا يخشى على أبنائه إذا قال رأيه أو كتب منشوراً. لكن هذا الأمن، لا يتحقق في بلد جائع، ولا في ظل اقتصاد منهار، ولا في مجتمع مقسوم بين مشردين ولاجئين ومنفيين.  



لا يخفى على أحد أن الحكومة الانتقالية، مهما حسُنت نواياها، ليست صاحبة القرار المطلق لأنها مازالت هشة. القوى الدولية والإقليمية التي تشابكت مصالحها في سوريا لن تنسحب لمجرد تغيّر واجهة الحكم. الروس لم يأتوا حباً بالأسد بل حباً بالبحر المتوسط، الإيرانيون لم يدفعوا آلاف المقاتلين ليعودوا بأيدٍ فارغة، الأتراك لم يحتلوا شمال سوريا لمجرد تأمين الحدود، والأمريكيون ليسوا في شرق الفرات بدافع حماية المدنيين. لكل طرف أجندته، ولكل أجندة مشروعها. فهل نحن أمام بداية تحرير، أم إعادة توزيع للنفوذ؟ هل ستسمح هذه القوى فعلاً بقيام دولة حقيقية في سوريا، أم أنها ستدفع باتجاه دولة مشلولة، هشة، تُدار بالتوافقات لا بالدستور، وتخضع للإملاءات لا للإرادة الشعبية؟


السوري لا يريد جمهورية ثالثة تُبنى على أنقاض جمهوريتي الأسد الأولى والثانية، بل يريد ولادة وطن جديد بالكامل. يريد دستوراً يُكتب في العلن لا في غرف مخابرات، يريد مشاركة حقيقية في القرار، لا اقتساماً للمناصب على أسس طائفية.  
 


لن تنجح المرحلة الانتقالية إلا إذا لامست حياة المواطن مباشرة، إذا شعر بها الكوردي في عامودا كما يشعر بها العربي في دير الزور، وأحس بها السرياني في تل تمر كما يحس بها العلوي في طرطوس، إن أدرك الجميع أن وطنهم بات فعلاً لكل أبنائه. لا يُبنى وطن على شبح الخوف، ولا تُكتب دساتير في العتمة، ولا تُصاغ حلول حقيقية دون إشراك كل السوريين، بمختلف مكوناتهم، في رسم مستقبلهم.


  في هذا السياق، الكورد ليسوا مجرّد رقم في المعادلة. هم جزء أصيل من الهوية السورية، شركاء في الثورة، شركاء في السجون، شركاء في الحلم. طُمس اسمهم، ومُنع أطفالهم من تعلّم لغتهم، وجرى تجريدهم من الجنسية، ثم اتُّهموا بالانفصال حين طالبوا بحقوقهم. لا عدالة في سوريا إذا استمرّ تهميشهم، ولا وحدة وطنية إن لم يُعترف بهم كما هم، بلا شروط ولا وصاية. الكورد لا يريدون كياناً موازياً، بل وطناً يتّسع لهم دون قيد.


علينا أن ندرك، أن كل السوريين يسألون السؤال ذاته: هل يمكن للأمن أن يعود؟ ليس الأمن بمعناه العسكري، بل أمن الحياة. أن يُولد الطفل في مستشفى لا في الخيام، أن يذهب إلى مدرسة لا إلى حقل ألغام، أن يخرج المواطن من بيته دون أن يلتفت خلفه خوفاً، ألا يُطرَد من عمله لأنه قال ما يفكر فيه، ألا يُسأل عن عشيرته أو دينه أو لغته حين يطلب وظيفة.
الطريق مازال طويلاً، ربما الحكومة الانتقالية لن تُغيّر كل شيء، وربما القوى الدولية لن تترك لنا الوطن بسهولة، لكن هناك شيء لا يملكه أحد سوانا، الإيمان أن سوريا لا تنتهي، وأنها، رغم كل شيء، ستنهض من تحت الأنقاض، من خلف الأسوار، من قلوب الأطفال التي لم تعرف إلا صوت القذائف، من حناجر المنفيين الذين ما زالوا يحلمون كل ليلة بالعودة. نحن السوريون، الكورد والعرب، المسلمون والمسيحيون، الإيزيديون والعلويون، نملك ذاكرة واحدة وإن جُرحت، ونملك حقاً واحداً في وطن لا يقصي أحداً.


   
اليوم، نحن أمام لحظة مصيرية. لا نملك ترف الانتظار، ولا خيار العودة إلى الوراء. علينا أن نُعيد تعريف الدولة، لا فقط الحكومة. أن نبني نظاماً جديداً يُنهي الحقبات السوداء، لا يُعيد تلميعها. سوريا لا تحتاج إلى نسخة معدّلة من القمع، بل إلى ولادة وطن، لا يُقصي أحداً، لا يختزل أحداً، لا يعاقب أحداً على انتمائه أو حلمه أو لغته.


قد تكون هذه اللحظة مفصلية، وقد نُخذل مرة أخرى. لكن من يقاوم الطغيان خمس عشرة سنة، لن يُهزم على يد الخيبة. سنُعيد بناء هذا الوطن، لا لأننا أقوياء، بل لأننا أحببناه كما لم يحب شعب أرضه من قبل.

ليفانت: عزالدين ملا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!