الوضع المظلم
الخميس ١٨ / سبتمبر / ٢٠٢٥
Logo
صحافة الواقع وصراع الحقيقة في سوريا
عز الدين ملا

في سوريا التي خرجت ببطء من تحت ركام نظام استبدادي استمر لأكثر من نصف قرن، تطرح الحرية أسئلتها القاسية على الصحافة قبل غيرها. فقد ولِد إعلام السوريين في قلب الخوف، نشأ تحت سلطة قبضة أمنية مشددة، حُكِم فيها على المواطن بأن يُبادَل حقّه في المعرفة والأخبار بالسكوت والخضوع. هذا التاريخ الطويل من القمع والتضليل الإعلامي ترك أثره العميق على العلاقة بين الصحافة والجمهور، ما جعل الإعلام في البلاد يتصارع مع بناء هوية جديدة ترفض الدعاية وتبحث عن الحقيقة.

عندما سقطت تلك القبضة الأمنية، وجدت الصحافة نفسها فجأة أمام فراغ أخلاقي ومهني رهيب. فراغٌ لا يعني فقط غياب الرقابة الصارمة، بل غياب منهجية واضحة في تناول الخبر، وغياب تصور متكامل لدور الإعلام في بناء مجتمع ديمقراطي ومسؤول. أمام هذا المشهد الجديد، تبرز تساؤلات جوهرية، هل تعيد الصحافة بناء ثقة الجمهور التي تآكلت؟ أم تسعى فقط إلى جذب جمهور متعطش للخبر العاجل والفوري دون التفكر في محتوى الخبر وجودته؟ هل ستصبح أداة لتثقيف المجتمع وفتح نافذة للحوار، أم مجرد منصة لانتشار الشائعات والخطابات الطائفية والمناطقية التي تهدد النسيج الاجتماعي؟

في هذا السياق، يأتي علم الاجتماع كحجر زاوية لا غنى عنه في معادلة بناء إعلام حر ومسؤول. سوريا اليوم ليست فقط بلدا يعاني من تداعيات الحرب والنزوح والهجرة، بل هي مجتمع يعيش تحولات عميقة في بنيته الاجتماعية والسياسية والثقافية. الهجرة والنزوح الداخلي والخارجي أفرغا مناطق بأكملها من سكانها، وخلّفا فراغات ديموغرافية واجتماعية شكلت تحديا كبيرا لهوية المجتمع السوري وتماسكه. صعود الولاءات القبلية والطائفية والعرقية، وتراجع الثقة في المؤسسات العامة والسياسية، وانهيار العقد الاجتماعي القديم الذي كان قائماً على علاقة ثقة بين المواطن والدولة، كلها ظواهر معقدة لا يمكن فهمها بمعزل عن التحليل الاجتماعي العميق.

التطور التكنولوجي الهائل، الذي منح الصحافة أدوات مبهرة من حيث السرعة والانتشار، بات في الوقت نفسه سلاحا ذا حدين. فبينما يتيح الوصول إلى مصادر متعددة ونشر الأخبار في ثوانٍ، فقد أدى أيضاً إلى سطحية في تناول الأخبار، واحتكار اللحظة العاجلة على حساب الفهم العميق. أصبح كل مواطن يحمل في هاتفه كاميرا ويشارك الخبر قبل التحقق، وهو ما يزيد من تعقيد مهمة الصحفي الذي يجد نفسه محاصرا بين سرعة نشر المعلومة وضرورة التدقيق في صحتها. في هذا المناخ، تتضاءل المسافة بين الحقيقة والشائعة، بين التوثيق والافتراء، وبين الشفافية والتلاعب.

إن الصحافة في سوريا الجديدة لا يُطلب منها فقط أن تخبر الجمهور بما حدث، بل أن تقدم الإجابة على أسئلة أعمق، لماذا حدث ذلك؟ ما هي الأسباب الجذرية؟ وكيف يمكن أن نسعى لتغييره؟ هذه الأسئلة تمنح الصحافة معناها الحقيقي كسلطة رابعة في المجتمع، سلطة لا تكتفي بالتقارير السطحية بل تسعى لفهم الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من جذورها. هنا، يكون العلم الاجتماعي شريكا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه، فهو الذي يفكك الظواهر ويعيد تركيبها داخل بنية المجتمع المتغيرة، فيمنح الصحافة قدرة على تفسير ما وراء الخبر، وتحليل الأسباب والدوافع.

الجمهور السوري اليوم، بعد سنوات من التعتيم الإعلامي، أصبح أكثر وعيا واحترافا في التمييز بين الخطاب الإعلامي الحقيقي والمزيّف. وهذا الجمهور لم يعد يقبل بأن يكون مجرد متلقٍ سلبي للمعلومات، بل يطالب بمنصات إعلامية تحترم حقه في المعرفة النقدية، وتوفر له محتوى يجعله شريكا في صناعة القرار. إنه جمهور يرفض الخطابات الاستقطابية التي تغذيها قوى داخلية وخارجية، ويبحث عن إعلام يتحرر من تأثيرات التمويل المشروط والضغوط السياسية. هذا يضع الصحافة السورية أمام تحد مزدوج، كيف تحافظ على استقلاليتها المهنية والأخلاقية في بيئة لا تزال تعاني من الفساد والمحسوبيات والتدخلات السياسية الخفية، وكيف تستعيد ثقة الجمهور في زمن الفوضى الإعلامية.

من هنا تنبع أهمية العلاقة العضوية بين الصحفي وعالم الاجتماع. الأول يبحث عن الحدث ويقدمه بصيغة سردية مشوقة، أما الثاني فينخرط في عمق المجتمع ليحلل كيف أصبح هذا الحدث ممكنا، وما الذي يكشفه من اضطرابات وأعطاب في البنية المجتمعية والسياسية. عندما تلتقي هاتان الرؤيتان في غرفة التحرير، تتحرر الصحافة من سطوة الاستعجال، وتستعيد مهمتها الحقيقية كمرآة للمجتمع، وكمساءلة مستمرة للسلطات بكافة أشكالها، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو دينية أو اجتماعية.

وأخطر ما قد تواجهه الصحافة السورية اليوم ليس فقط رقابة الدولة القديمة التي سقطت، بل رقابة جديدة تأتي من السوق، أو الجماهير، أو الأحزاب الوليدة التي قد تمارس ضغوطا على الخطاب الإعلامي بطرق أكثر خفاء وتعقيدا. الحرية الإعلامية، إذا لم تُبنى على أساس معرفي راسخ وأخلاقيات صحفية متينة، يمكن أن تتحول إلى فضاء للفوضى الإعلامية، وخطاب الكراهية، والمعلومات المسمومة التي تفتت المجتمع بدلاً من جمعه. لذلك، فإن بناء صحافة مسؤولة في سوريا ما بعد الأسد ليس خيارا نخبويا، بل هو شرط أساسي لإعادة تأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على ثقة متبادلة بين المواطن والمؤسسات الإعلامية.

وفي هذا الإطار، لا يمكن إصلاح الإعلام بمعزل عن مشروع أوسع لإعادة بناء الثقة في المجتمع السوري. الثقة بين المواطن والحقيقة، بين الكلمة والمساءلة، وبين الخبر والفعل، هي التي ستؤسس لبيئة إعلامية صحية ومستقرة. هذا المشروع يحتاج إلى حوار مستمر بين أروقة الجامعات وغرف التحرير، بين الباحثين الميدانيين والصحفيين، وبين من يلتقطون التفاصيل الصغيرة ومن يضعونها في سياقها التاريخي والاجتماعي والسياسي الأوسع.

عندما يتحرك الإعلام بهذه الروح، يصبح شريكا فاعلا في بناء سوريا التي تستحق الحقيقة والعدالة، لا سوريا التي خضعت لعقود للحجب والتزييف. حينها، يصبح نص الصحفي، مدعوما بأدوات التحليل الاجتماعي، شهادة حية على زمن جديد، زمن يُكتب على أنقاض الخوف، ويؤسس لذاكرة جماعية تحفظ حق الناس في المعرفة، وفي تقرير مصيرهم بحرية ووعي.

ليفانت: عزالدين ملا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!