-
مسار العدالة والمصالحة في سوريا

الجميع يعلم أن العدالة الانتقالية تعد أحد الركائز الأساسية لبناء سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد الذي حكم سوريا لستة عقود من الزمن نال خلالها السوريون الويلات من دمار وقتل وتشريد وتعذيب، وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ولا يمكن للمجتمع السوري تجاوز إرث العنف والدمار دون محاسبة المسؤولين عن الجرائم وتحقيق مصالحة وطنية حقيقية. ويعد تحقيق العدالة الانتقالية في هذا السياق ضرورة لضمان حقوق الضحايا وتعزيز استقرار البلاد، مع التركيز على إنصاف كافة المكونات السورية، وعلى رأسها الشعب الكوردي الذي عانى من سياسات تمييزية ممنهجة تحت حكم نظام البعث ونظام الأسد.
لقد عانى المكون الكوردي في سوريا لعقود من سياسات الإقصاء والاضطهاد التي اتبعها نظام البعث ثم نظام الأسد، حيث تعرضوا للحرمان من الجنسية في إحصاء عام 1962، وتم تهميشهم في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية. كما تم تنفيذ سياسات تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية في المناطق الكوردية، مثل مشروع الحزام العربي، الذي أدى إلى توطين العرب في المناطق الكوردية في محاولة لطمس الهوية الكوردية. وزادت هذه الممارسات خلال سنوات الحرب، حيث تعرضت المناطق الكوردية لهجمات من أطراف متعددة، بما في ذلك النظام والجماعات المتطرفة. إن سقوط النظام السوري سيمثل فرصة سانحة للبدء بعملية عدالة انتقالية شاملة، تشمل محاسبة جميع الأطراف المتورطة في الانتهاكات، بما في ذلك النظام السابق والفصائل المسلحة والجماعات المتطرفة لمَن لهم اليد في الدم السوري. ولن يكون تحقيق العدالة ممكناً دون تشكيل محاكم خاصة أو الاستعانة بالمحاكم الدولية مثل محكمة الجنايات الدولية لضمان تقديم المسؤولين عن الجرائم إلى العدالة وعدم السماح بالإفلات من العقاب.
إلى جانب المحاسبة القانونية، تتطلب العدالة الانتقالية إصلاح المؤسسات القضائية والسياسية لضمان استقلاليتها وقدرتها على التعامل مع القضايا الشائكة بحيادية. ويجب أن تترافق مع سياسات تعويض للضحايا، سواء عبر الدعم المالي أو إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي، لضمان استعادة ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة الجديدة.
فالتعويض لا يقتصر فقط على الجوانب المادية، بل يجب أن يشمل إعادة الاعتبار للضحايا من خلال الاعتراف الرسمي بمعاناتهم، وإدماجهم في الحياة السياسية والاجتماعية، وضمان عدم تكرار الانتهاكات التي تعرضوا لها.
وفيما يخص حقوق الكورد، ينبغي أن تتضمن العدالة الانتقالية إجراءات خاصة لمعالجة إرث التمييز والانتهاكات التي تعرضوا لها، من خلال إعادة الحقوق المسلوبة، مثل استعادة الجنسية السورية لمن حرموا منها وتعويض المتضررين من مشاريع التغيير الديموغرافي، إضافة إلى الإقرار بالهوية الكوردية عبر الاعتراف الرسمي بالكورد كمكون رئيسي من مكونات سوريا، وإدراج ذلك في الدستور الجديد. كما يتطلب ذلك تمكينهم سياسياً وضمان تمثيل عادل لهم في الحكومة والمؤسسات الوطنية، وإشراكهم في صناعة القرار لضمان عدم تكرار سياسات الإقصاء السابقة.
التعويض العادل هو أيضاً أحد الجوانب الأساسية لضمان حقوق الكورد، سواء عبر تقديم تعويضات مادية ومعنوية لمن تعرضوا للاضطهاد والتهميش، أو من خلال الاعتراف بحقوقهم الثقافية واللغوية وإدماجها في النظام التعليمي والإداري للبلاد.
وعليه، فان المصالحة الوطنية، باعتبارها جزءاً أساسياً من العدالة الانتقالية، يجب أن ترتكز على مواجهة الحقيقة والاعتراف بالجرائم التي ارتكبت خلال النزاع. تحقيق ذلك يتطلب تشكيل لجان مصالحة وطنية تمثل مختلف مكونات المجتمع السوري، تعمل على توثيق الجرائم، وتعزيز الحوار المجتمعي، وتطوير استراتيجيات لإعادة بناء الثقة بين مختلف الأطياف. يجب أن تكون هذه اللجان شفافة ومستقلة، وأن تحظى بدعم دولي يضمن عدم انحيازها لأي طرف، مع ضرورة أن تشمل جميع الأطراف الفاعلة في المجتمع السوري، من سياسيين وزعماء دينيين وممثلين عن المجتمع المدني.
وكذلك، فان إحدى القضايا المهمة التي يجب مراعاتها في عملية العدالة الانتقالية هي حقوق التنوع السوري، حيث يتكون المجتمع السوري من طوائف وإثنيات متعددة، تشمل العرب، والكورد، والتركمان، والأرمن، والمسيحيين، والدروز، والإيزيديين، وغيرهم.
لقد تعرض العديد من هذه المجموعات للتمييز أو القمع في ظل النظام السابق، كما أدى النزاع إلى تفاقم الانقسامات العرقية والطائفية. لذا، يجب أن تضمن العدالة الانتقالية الاعتراف بحقوق جميع المكونات السورية وتعزيز مبدأ المساواة أمام القانون. إعادة بناء الثقة بين المكونات المختلفة تتطلب سياسات تضمن مشاركة الجميع في الحياة السياسية، وضمان تمثيلهم العادل في المؤسسات الجديدة.
كما يجب أن تشمل برامج العدالة الانتقالية جهودا لتوثيق الانتهاكات التي تعرضت لها مختلف الفئات، وتقديم تعويضات عادلة تأخذ بعين الاعتبار الفجوات التاريخية في الحقوق والتمثيل السياسي. من الضروري أيضا تطوير مناهج تعليمية تعزز قيم التسامح والتعددية، وتضمن عدم إعادة إنتاج الأنماط السابقة من الإقصاء والتمييز.
ومن هنا لابد أن ندرك، ان التحديات أمام تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا لا تزال كبيرة، ومن أبرزها الانقسامات العميقة داخل المجتمع السوري، وغياب الإرادة السياسية لدى بعض الأطراف للانخراط في محاسبة عادلة وشاملة. كما أن التدخلات الخارجية قد تعقد المسار، حيث تسعى بعض القوى الدولية إلى فرض حلول تتماشى مع مصالحها، مما قد يؤثر على استقلالية العدالة الانتقالية. بالإضافة إلى ذلك، هناك تحديات تتعلق بآليات تنفيذ العدالة الانتقالية في ظل ضعف البنية التحتية القانونية، وضرورة تدريب الكوادر القضائية على التعامل مع قضايا الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
وعلينا أيضا أن لا ننسى الجوانب المهمة في العدالة الانتقالية، وهو التركيز على العدالة التصالحية إلى جانب العدالة العقابية، حيث إن الهدف ليس فقط معاقبة الجناة، بل أيضا إيجاد حلول مستدامة لضمان السلام الاجتماعي. يمكن أن تشمل هذه الحلول برامج لإعادة تأهيل الجناة وإدماجهم في المجتمع، شريطة الاعتراف بجرائمهم والتعهد بعدم تكرارها.
كما يجب العمل على برامج تثقيفية تهدف إلى رفع الوعي بين الأجيال الشابة حول أهمية العدالة والمحاسبة، وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان. لذلك، يجب أن يكون هناك توازن بين الجهود المحلية والدولية لتحقيق العدالة الانتقالية بطريقة تعزز الاستقرار ولا تؤدي إلى جولة جديدة من العنف. يمكن أن تساهم المنظمات الدولية والجهات المانحة في توفير الدعم الفني واللوجستي لتمكين المؤسسات القضائية الناشئة، وضمان تنفيذ عملية عدالة انتقالية قائمة على مبادئ الشفافية والإنصاف. كما يجب أن يتم دمج المجتمع المحلي في هذه العملية، حيث إن العدالة الانتقالية لن تنجح إلا إذا شعر المواطنون بأنهم جزء من عملية بناء مستقبل بلادهم.
لذا، لا يمكن لسوريا أن تبني مستقبلا ديمقراطيا مستداما دون تحقيق العدالة الانتقالية بشكل عادل وشامل، مع التركيز على إنصاف الكورد وغيرهم من الفئات التي تعرضت للاضطهاد. يجب أن يكون سقوط النظام السابق وتشكيل حكومة انتقالية فرصة لوضع أسس دولة قائمة على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، مع إدماج الحقوق الكوردية المشروعة في الدستور الجديد.
إن تحقيق هذه الغاية يتطلب التزاما سياسيا، وإصلاحات مؤسسية، ودعما دوليا لضمان عدم تكرار مآسي الماضي وبناء مستقبل أكثر إشراقا لجميع السوريين. إن العدالة الانتقالية ليست مجرد خطوة نحو طي صفحة الماضي، بل هي حجر الأساس لبناء مجتمع يسوده العدل والتسامح، ويضمن عدم عودة الديكتاتورية والاضطهاد بأي شكل من الأشكال.
ليفانت: عزالدين ملا
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!