الوضع المظلم
الخميس ١٠ / يوليو / ٢٠٢٥
Logo
  • الإسلام المتشدد بين أوهام السلام ومخاطر المستقبل السوري

الإسلام المتشدد بين أوهام السلام ومخاطر المستقبل السوري
رضوان باديني

في خضم التحولات العنيفة التي تعصف بسوريا، وتبدلات المشهد السياسي الذي أفضى إلى صعود تيارات إسلامية متشددة إلى السلطة، تتصاعد التساؤلات حول قابلية الإسلام – تحديدًا بصيغته الحاكمة الجديدة – لأن يكون دين سلام وعدالة، أو إطارًا صالحًا لحكم عصري قائم على احترام التعددية وحقوق الإنسان.

الإسلام، كما هو معروف تاريخيًا، لم يُبنَ على فلسفة مدنية أو تجربة سياسية تعددية؛ بل نشأ وتمدد بالسيف، وارتبط قيام دولته الأولى بالعنف العسكري والتوسع القسري. ومع أن هناك محاولات لاحقة لترويض هذا التاريخ أو تلميع صفحاته، فإن الإسلام السياسي الحديث، وخصوصًا في نسخته السلفية الجهادية، أعاد إنتاج النسخة الأكثر تطرفًا من هذه البنية العنيفة، وظهرت فتاوى وممارسات لا تمت بأي صلة إلى مفاهيم الدولة الحديثة أو القيم العالمية للحرية والمساواة.

إن طرح السؤال: هل يمكن لهذا الدين، بتركيبته العقدية الصارمة وتفسيراته المتوارثة التي ترفض الحداثة، أن يتحول إلى دين سلام وأمان؟ – هو في صميم المعركة الفكرية التي يخوضها الشرق الأوسط اليوم. والأهم من ذلك: هل يمكن له أن يُشكّل إطارًا حاكمًا يتسع لمجتمعات متعددة الأعراق والأديان، ويضمن العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية؟

الإسلام السياسي كعبء على المجتمعات التعددية

إن إعادة تموضع السلطة في سوريا، وتسليمها إلى جهات كـ “هيئة تحرير الشام” بزعامة الجولاني، لا تبشّر بأي خير لمن يحلم بمجتمع مدني تعددي. فهذا التنظيم، على الرغم من محاولاته الترويج لخطاب أكثر “واقعية” في العلن، إلا أن بنيته الفكرية لا تزال مرتهنة للنصوص القطعية والمتشددة التي تشرعن القتل باسم الدين، وتبيح فرض الجزية على “أهل الذمة”، وتمنح الحاكم صلاحيات مطلقة باسم “الشرع”.

وهنا يبرز اسم الحاكم السوري الجديد، المدعو “الشرع”، كشخصية لا تبعث على الاطمئنان. فقد أثبت سلوك هذا التيار، في كل مرة أمسك فيها بالسلطة، أن “الاستتباب الأمني” ليس سوى تمهيد لإقامة نظام ثيوقراطي لا يعترف بالحقوق القومية ولا بالمواطنة على قاعدة المساواة، بل يُصنّف المواطنين وفق معتقداتهم وولائهم العقائدي. والجزية أو القتل للمختلفين دينيًا، ليست تهديدًا نظريًا بل ممارسة موثقة في عهود “الخلافة” المزعومة التي ظهرت في العقد الماضي.

الكُرد والتحدي المصيري

في هذا السياق، يُطرح سؤال وجودي أمام الكُرد في سوريا: ما الذي يمكن أن يجنوه من مبادرة للحوار مع هذا النظام؟ وهل من الواقعية أن يتوقعوا حقوقًا قومية أو مكاسب مدنية من جهة تُقصيهم من معادلة الهوية، وتصنّفهم كأقليات ذمية أو متمردة؟

لقد دفع الكُرد، ولا سيما في شمال وشرق سوريا، أثمانًا جسيمة في التصدي لموجات التطرف الديني التي مثلها “داعش” وتنظيمات مماثلة. وقد تمكّنوا – بفعل تضحياتهم وتحالفاتهم – من بناء تجربة حكم محلية قائمة على التعددية الجندرية والإثنية واللغوية، وتقديم نموذج لحكم مدني في وسط فوضى الحروب الدينية والطائفية. فهل يُعقل أن يُرمى بكل هذا الإرث، ويُسلَّم لمشروع يرى في هذه الإنجازات “بدعة” و”فسقًا” لا بد من اجتثاثه؟!

حدود التفاوض وسقف الممكن

من المهم أن يدرك الكُرد، ومعهم بقية القوى المدنية والديمقراطية، أن أي حوار مع نظام إسلامي متشدد لا يمكن أن يكون نزيهًا أو منتجًا ما لم يُبْنَ على أسس علمانية واضحة، ويكفل الضمانات الدولية لحقوق الشعوب. إن وضع الثقة في أقوال الجولاني أو غيره ممن لا يعترفون أصلاً بمفهوم “الدولة المدنية” هو ضرب من الوهم السياسي. لا يمكن لعاقل أن يُصدق أن مشروعًا قام على فقه الغنائم والسبي يمكن أن يتحول بقدرة قادر إلى راعٍ لحقوق الإنسان وحرية المعتقد.

نحو موقف كردي موحد وواضح

في ظل هذا الواقع الملبد بالتهديدات، لا بد للكُرد من بلورة موقف استباقي وموحد. يجب أن يُعلنوا، وبصوت عالٍ، رفضهم لأي نظام لا يعترف صراحة بحقوقهم القومية والثقافية، وأي مشروع سياسي لا يضمن الفصل بين الدين والدولة. كما ينبغي تحشيد الرأي العام الدولي مجددًا، ولفت الأنظار إلى حقيقة ما يجري في سوريا من محاولات لإعادة إنتاج الاستبداد، ولكن هذه المرة بعمامة وفتوى.

في الختام، لا يُمكن الرهان على إسلام سياسي لم يعترف يومًا بالآخر المختلف، ولا يُمكن منح شرعية لحكم يُهدد التعايش والكرامة باسم “الشريعة”. وللكرد، كما لبقية الشعوب الساعية للحرية، أن يتخذوا الحذر التام وهم يرسمون خطوط مستقبلهم في هذا الشرق المأزوم.

د. رضوان باديني

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!