الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٢ / يوليو / ٢٠٢٥
Logo
  • الكورد السريان هوية تتجذر لا تذوب.. الجزء الثالث

الكورد السريان هوية تتجذر لا تذوب.. الجزء الثالث
د. محمود عباس

إن من يريد العيش المشترك، عليه أولًا أن يعترف بالاختلاف، لا أن يلغيه باسم القربى، فالهويات لا تُصهر، بل تُحترم، وهذه هي أولى قواعد البقاء في الشرق الممزق.

من هنا، لا يمكن الحديث عن اللغة السريانية بمعزل عن محاولات محوها، ولا عن الكرامة القومية دون الوقوف في وجه سرديات الإلحاق والتذويب، فالمعركة من أجل بقاء السريانية تتقاطع حتمًا مع معركة الهوية الكوردية والسريانية في وجه المشاريع التي تريد تذويب الجميع في هوية واحدة مصنّعة، لذلك، فإن محاولات بعض الكتبة العروبيين الجدد من أيتام البعث، ومن بينهم بعض المحسوبين على المكون السرياني ذاته، لا يمكن قراءتها إلا كاستمرار لسرديات التزييف، المقنّعة بلبوس التحليل التاريخي. سنأتي لاحقًا على خربشات أحدهم، ممن يروّجون لفكرة القرابة المفترضة بين العرب والسريان، وهي خرافة لا تُبنى على علم، بل على نزعة استلحاقية، تسعى إلى إلغاء الخصوصية السريانية وإدماجها قسرًا في سردية العروبة، فهذه الكتابات لا تصدر عن روح التآخي، بل عن رغبة في الهيمنة، وهي الوجه الناعم لنفس النزعة الشوفينية التي أنكرت على الكورد وجودهم، وتحاول اليوم التلاعب بجذور السريان وسلخهم عن تاريخهم الحقيقي. 
العرب والسريان الكورد أو تحالف الدمين، تزييف التاريخ وتذويب القوميات.
هذا ما يعبث به أصحاب المقال المنشور في العربي الجديد بتاريخ 1 تموز 2025، تحت عنوان "العرب والسريان أو تحالف الدمين، أبناء العمومة وإرث مشترك"، إلى جانب مقالات أخرى مماثلة نشرت في مواقع متعددة خلال الفترة الأخيرة، ليست هذه الكتابات مجرد قراءات تاريخية ساذجة، بل محاولات ناعمة، ولكن خطيرة، لتذويب القوميات الأصيلة، وتشويه الوقائع التاريخية، وتكريس السردية العروبية الشوفينية بأساليب حديثة وملطّفة.
الادعاء بأن السريان "أبناء عمومة العرب"، أو أنهم "امتداد لقبائل عربية شمالية"، ليس سوى انزلاق فجّ نحو إعادة كتابة الجغرافيا السكانية لخدمة مشروع هيمنة قومي لا يقل خطرًا عن مشاريع التعريب البعثية، بل يتفوق عليها بلباسه المدني والبحثي المخادع.
فهل يُعقل أن يتم استبدال آلاف السنين من التمايز اللغوي والثقافي والروحي بين الآراميين–السريان والعرب، بجملة فضفاضة عن "تحالف الدمين"؟!
إن ما يُساق هنا من افتراضات عرقية، يتجاهل عمدًا أن السريان هم استمرار للأراميين سكان الهلال الخصيب، قبل أن يرد ذكر العرب أصلاً كمكون سياسي وجغرافي في المنطقة، وأن لغتهم السريانية (الآرامية) كانت لسان العلوم والفلسفة والدين قبل العربية بألف عام، فمتى أصبح التاريخ العميق تبعًا لغزوات القرن السابع؟
أما الأخطر، فهو التلميح إلى أن السريان في الجزيرة الكوردستانية، خصوصًا من تبقى منهم في نصيبين، ماردين، الحسكة، ومحيط القامشلي، هم "من القبائل العربية"، متناسين الحقيقة الراسخة أن غالبية هؤلاء هم كورديون بالأصل، اعتنقوا المسيحية منذ القرون الأولى، وتبنّوا اللغة السريانية ضمن إطار الكنيسة والتعليم، دون أن يعني ذلك انقطاعًا عن هويتهم الجغرافية القومية، كوردستان.
إن محاولة نسب السريان - الكورد، أو السريان - الأراميين إلى العروبة اليوم، لا تختلف في جوهرها عن محاولات "تَركمَنة" جميع مكونات الجغرافيا التي سُمّيت جدلًا "تركيا"، أو "قَوقنة" الأرمن، أو تعريب القبط والأمازيغ، أو حتى سلخ الكورد الذين نسوا لغتهم وهاجروا قسرًا عن كوردستان، إنها ليست مجرد أخطاء تحليلية، بل مشروع تذويب ممنهج، يُمارَس تحت راية قومية لا تعترف بالتعدد، بل تسعى للضمّ والإلحاق والقولبة.
والمقال المذكور، وغيره من الأدبيات المشابهة، لا يمكن أن يُقرأ كاجتهاد ثقافي بريء، بل هو امتداد لمشروع سياسي خطير، هدفه إعادة تشكيل الوعي الجمعي وفق رواية عروبية مهيمنة، تُخضِع الهويات الأصلية لقوالب "أخوة الدم"، و"التحالفات الروحية"، و"الروابط اللغوية" المصنوعة على مقاسات الهيمنة. إنها أدوات ناعمة لطمس الوقائع، وإعادة كتابة التاريخ بمداد الإنكار.

يتبع...
د. محمود عباس
 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!