الوضع المظلم
الخميس ٠٦ / نوفمبر / ٢٠٢٥
Logo
  • حين عرّى الوعي الكوردستاني الزيف الانتقالي

  • سقوط الأقنعة في ساحات سوريا وأوروبا ومعركة الشرق الجديد
حين عرّى الوعي الكوردستاني الزيف الانتقالي
محمود عباس

لقد انكشف المستور أخيرًا؛ فالحكومة السورية الانتقالية ومن يقف خلفها من قوىٍ إقليمية تعرّت أمام العالم، بعدما فشلت في تحشيد الناس ضدّ قوات سوريا الديمقراطية، سقط قناعها الدعائي الذي روّجت به أنها تمثل "أغلبية الشعب السوري"، فإذا بها لا تمثل حتى ربع المكوّن السني الذي تتحدث باسمه. لقد تكشفت هشاشتها في الداخل والخارج، وانفضح دورها كأداة تنتهي مهمتها بزوال الحاجة إليها، ولو أدرك القائمون عليها هذه النتيجة، لما أقدموا على مغامرة كهذه تكشف خواءهم السياسي والأخلاقي.

إنّ تلك المسيرات التي حاولت السلطة الانتقالية افتعالها لم تكن سوى ارتعاشات كيانٍ يدرك أنه في طور الزوال، فهي جزء من مشهدٍ أوسع من الصراع على جغرافية الوعي ومصير الشرق الأوسط الجديد، حيث تدور معارك متزامنة، ضدّ "قسد" بوصفها الذراع الأكثر ثباتًا للولايات المتحدة والتحالف الدولي، وضدّ القضية الكوردية التي بدأت تفرض حضورها على خرائط التفاهمات الإقليمية.

ما جرى لم يكن مجرّد تحشيدٍ سياسي، بل إحدى حلقات الحرب على الوعي الكوردستاني الذي تجاوز حدود الجغرافيا واللغة، فالجهات المحرّضة، من بقايا البعثيين، والتكفيريين، والمأجورين، تتحرك بأمرٍ من أنقرة، تلك التي جعلت من العداء للكورد عقيدة دولة، وجرّت خلفها حكومتها الوكيلة المسماة "الانتقالية" لتكرار دور النظام البائد في محاربة كلّ من يحمل هوية الحرية أو راية كوردستان.

ولم يعد خافيًا أن ما يجري في الخفاء أكبر من حدود سوريا نفسها؛ فالمشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط يُعاد رسمه، ومن ضمنها تركيا وإيران والعراق وسوريا، تحت مظلة مصالح القوى الكبرى، وبموازاة ذلك تتحرك مراكز القرار في واشنطن ولندن وباريس وموسكو لتفحص بنية الوعي الجديد لشعوب المنطقة، ومنها الوعي الكوردستاني الذي تحوّل من قضية محلية إلى قضية عالمية ذات بعد حضاري وإنساني.

هذه المراكز لم تعد تدرس الشرق الأوسط كخرائط طاقة وحدود نفوذ، بل كمنطقة تتنامى فيها قوة الوعي الجمعي الذي يكسر قوالب الاحتلال والاستبداد، ويعيد تعريف الانتماء والهوية، ولعلّ هذا ما أقلق الأنظمة المحتلة لكوردستان، التي كانت تحتكر تصنيف الأعداء والأصدقاء، فوجدت نفسها أمام شعوبٍ بدأت تعيد تعريف ذاتها خارج قوالبها القديمة.
ومن هنا نفهم مغزى مؤتمر الأقليات في إسرائيل الذي ظنّه البعض مجرّد مبادرة فردية هامشية، بينما هو في الحقيقة إحدى حلقات المخطط الجديد لإعادة صياغة الشرق الأوسط على ضوء التحولات الفكرية والوعي الخوارزمي العابر للحدود، إنّ حضور شخصيات كوردية ودرزية وعلوية ومسيحية في هذا المؤتمر لم يكن انشقاقًا عن أوطانهم، بل تمرّدًا على ثقافة الإقصاء التي سادت قرنًا من الزمن.

لقد تغيّر المشهد، فالقضية لم تعد تُقاس بالسلاح، بل بمن يمتلك وعي الشعوب ومفاتيح المستقبل، ومن هنا، فإنّ الحرب الحقيقية التي تخوضها قوى الظلام ليست ضدّ قسد أو الإدارة الذاتية فحسب، بل ضدّ الوعي الجمعي الكوردستاني الجديد الذي بدأ يُسقط أقنعة الأنظمة، ويكسر جدران الصمت، ويُعيد للشرق وجهه الإنساني بعد قرونٍ من التزييف.

اليوم، لم يعد الصراع في سوريا صراعًا على سلطةٍ أو حدود، بل على العقل الذي يرسم الغد، فبين من يصرّ على إحياء الخرائط القديمة، ومن يسعى لبناء شرقٍ جديد يقوم على الحرية والتعددية، يقف الشعب الكوردي في قلب المعادلة، لا كأقلية تبحث عن اعتراف، بل كقوة فكرية وثقافية تعيد تعريف معنى الوطن.

والذين ظنّوا أن بإمكانهم محو هذا الوعي بالتحريض أو التشويه، سيكتشفون قريبًا أن التاريخ لا يرحم من يحارب الفكرة عندما تتحول إلى وعيٍ جمعيٍّ لا يُقهر، ليس فقط على مستوى شعوب سوريا، بل شعوب الشرق الأوسط.

د. محمود عباس
 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!