-
السلطة التي لا تمثلنا.. سوريا إلى أين؟

بهدوء، ومن دون مبالغات أو اتهامات مسبقة، دعونا نراجع حصيلة ما أنتجته سلطة الأمر الواقع التي تحكم سوريا منذ ثمانية أشهر.ليس الهدف هنا تسجيل موقف سياسي، بل وضع النقاط على الحروف في لحظة حرجة لا تحتمل المجاملة ولا الإنكار.
الواقع يقول إن سوريا، بعد سقوط النظام السابق، دخلت مرحلة جديدة وُصفت بأنها "انتقالية".
لكن مع مرور الوقت، وبعيدا عن الخطابات، بدأت تظهر مؤشرات متراكمة لا يمكن تجاهلها:
تفكك أمني، انسداد سياسي، انهيار اقتصادي، تعمّق الانقسام الاجتماعي، وفقدان شبه كامل للسيادة.
الأمر لا يتعلق بالتوقعات أو النوايا، بل بالنتائج الفعلية.
وعليه، لا بد من طرح سؤال مباشر:
هل تقودنا هذه السلطة نحو بناء دولة؟ أم نحو إعادة إنتاج أزمة، وربما انفجار أكبر؟
المنظومة التي تحكم بلدنا منذ سقوط الأسد فشلت فشلا شاملا في أداء أي وظيفة من وظائف الدولة. لم تُخطئ في بعض السياسات، بل أخفقت في كل شيء تقريبا: الأمن، السياسة، الاقتصاد، العدالة، السيادة، التمثيل، والإدارة.
ورغم محاولات التجميل المستميتة، إلا أن الواقع يفرض نفسه:
السلطة الحالية لا تدير مرحلة انتقال، بل تُعيد تدوير الاستبداد بأدوات مختلفة، وسوريا لا تتجه نحو الاستقرار، بل نحو التفكك المحكوم بعنف، يُدار تحت مسمى "الضبط"، بينما ينخره الانهيار من الداخل.
في الشهور التسعة الماضية، أُتيحت للسلطة فرصة نادرة تاريخيا:
فراغ سياسي كامل بعد سقوط النظام، دعم إعلامي ومالي من حلفاء إقليميين، غياب أي بديل رسمي معترف به دوليا، وتعب شعبي يائس يطلب الحد الأدنى من الأمان والاستقرار.
ومع ذلك، فشلت هذه المنظومة في أن تقدم شيئا يُشبه الدولة… لا في الشكل، ولا في المضمون.
أمنيا ومجتمعيا، لم يقتصر فشل السلطة على غياب الضبط، بل امتد إلى تبني استراتيجية خطيرة في إدارة المجتمع: ضرب السوريين ببعضهم البعض، عبر تغذية الانقسامات الطائفية والعشائرية والمناطقية، وإحياء منطق "الفزعات" القبلية كسلاح سياسي.
في كل منطقة تقريبا، تحوّلت الدولة من ضامن للتماسك إلى لاعب ضمن الانقسام.
بدلا من نزع فتيل النزاعات المحلية، كانت السلطة تغذّيها بصمت، وأحيانا بإشارات مباشرة، وفق قاعدة واحدة: كلما اقتتل الناس، كلما تراجعت المطالب السياسية، وتقدّمت الحاجة إلى “الحماية”.
في الساحل، جرى تنفيذ عمليات انتقام طائفية واسعة، راح ضحيتها المئات من المدنيين، وترافقت مع حملات تهجير من قرى كاملة، وسط تجاهل إعلامي، وتواطؤ ميداني، وغياب أي محاسبة.
أما في السويداء، فقد وقعت مجازر مروّعة بكل المقاييس:
هجوم منسّق شاركت فيه فصائل من "الجيش الجديد" إلى جانب مسلحين بدو من مناطق مجاورة، استُخدمت فيه أسلحة ثقيلة، وتم تدمير أحياء وبلدات بشكل كامل، وسُجلت مئات الضحايا من المدنيين، بينهم أطفال ونساء وشيوخ، ووقعت عمليات تصفية جماعية لعائلات بأكملها.
تُركت الجثث في الطرقات، وقُطعت الاتصالات، ولم تُفتح أي تحقيقات جدية حتى اليوم.
ما جرى في السويداء ليس مجرد “حدث دموي” بل جرح وطني عميق.
محافظة كاملة، ذات رمزية تاريخية في النسيج السوري، تم سحقها، وترويع سكانها، وإهانة كرامتهم الجماعية، في وضح النهار، وتحت رايات جيش يُفترض أنه يمثل الدولة.
والأخطر أن إسرائيل كانت حاضرة، بالطيران والمراقبة والتدخل السياسي، وهو ما كرّس صورة الجنوب كمنطقة خاضعة لتفاهمات فوق–سورية، لا سلطة وطنية.
ما جرى هناك أحدث شرخا مجتمعيا هائلا، وانكسارا في الثقة، وألما لا يمكن احتواؤه بالتصريحات أو “الاعتذارات”.
هذا لم يكن خطأ في التقدير، بل امتداد مباشر لنمط سلطة ترى في كل مكوّن سوري لا يشبهها، مشروع خطر يجب تطويقه بالقوة أو تفتيته من الداخل.
سياسيا، لم تبادر السلطة إلى أي حوار وطني جاد، ورفضت إشراك أي قوى وطنية مدنية أو ثورية مستقلة.
تعاملت مع المكونات السياسية باعتبارها "عقبات" لا شركاء، واحتكرت القرار السيادي والدستوري، بينما أصدرت إعلانات شكلية لا تحمل مضمونا حقيقيا ولا آليات قابلة للتحقق.
أما مشروع الدستور، فقد بقي مجرد وعد مؤجل، بينما السلطة تُحكم اليوم بمنطق الحكم الفردي المطلق المقنّع بعبارات دينية أو "انتقالية"، دون تمثيل فعلي، ودون عقد سياسي جامع.
اقتصاديا، لا توجد خطة، ولا إدارة، ولا حتى اعتراف بحجم الأزمة.
فضائح بإستيلاء رأس المنظومة وأخوته على مليارات
والوعود بالمليارات القادمة من الاستثمارت انهارت مع أول اختبار.
العملة تتدهور، الرواتب لا تكفي لأيام، الكهرباء غير موجودة، المياه مقطوعة، الدواء مفقود، والإغاثة باتت سلاحا يُكافأ به الموالون ويُعاقب به المختلفون.
ورغم كل هذا، تستمر السلطة بتقديم خطاب إنكاري، وتروّج لصورة رخاء افتراضية لا وجود لها إلا في بيانات الداعمين.
أما على مستوى السيادة، فالوضع أوضح من أن يُخفى.
الجنوب بات تحت تأثير إسرائيلي مباشر وغير خاضع للقرار السيادي السوري.
إدلب وريف حلب ومدن كاملة في الشمال يخضعان فعليا للإدارة التركية العسكرية والمدنية.
الشرق ممزق بين الإدارة الذاتية وحضور أمريكي ثابت.
وفي الساحل، غير الهيمنة الروسية ترتفع الأصوات المطالبة بحلول "فيدرالية" أو "إدارة مستقلة"، ويُحضَّر لها سياسيا في المحافل الدولية.
وفي وسط البلاد، تذوي الدولة. لا مؤسسات، لا استقرار، لا أفق، مع تمركز فعلي لعشرات أجهزة المخابرات العالمية والعربية
وما تبقى ليس أكثر من إدارات محلية مرهقة، تحكمها الولاءات لا الكفاءة، وتُسيرها “قرارات فوقية” لا يعرف أحد من يصدرها فعلا.
في ظل هذا كله، لم يعد السؤال “أين الخلل؟” بل: إلى متى سنستمر بإنكار الحقيقة؟
ما يُفرض اليوم على السوريين ليس مشروع دولة، بل نسخة جديدة من السلطة الفاشلة، بلا مضمون وطني، ولا مستقبل قابل للحياة.
وما دام هذا المسار مستمرا، فإن سوريا تتجه حتما إلى نقطة الانفجار الأكبر، وربما التقسيم الواقعي.
لهذا، لم يعد مقبولا التردّد أو الانتظار.
اللحظة الآن تتطلب شيئا واحدا: أن يتقدّم الوطنيون السوريون لتحمّل مسؤوليتهم التاريخية، ويعلنوا بوضوح:
أن هذه السلطة لا تمثلنا، ولا تمثل مستقبل سوريا.
أن ما يجري هو انقلاب على العقد الوطني، وانتحار بطيء للوطن.
أن هناك بديلا وطنياً مدنياً حقيقياً يمكن أن يُطرح، ويجب أن يُطرح الآن.
نحن بحاجة إلى تشكيل كيان وطني انتقالي بديل، يُعلَن عنه بوضوح، لا كمجرد مبادرة، بل كموقف سياسي جامع، تُشارك فيه شخصيات سورية مشهود لها بالوعي والكفاءة والنزاهة.
كيان يقدم رؤية سياسية واضحة، ميثاقاً جامعاً، خريطة طريق فعلية، ويبدأ ببناء الشرعية من الناس، لا من العواصم.
فالرهان على "تطور" السلطة الحالية أو اندماجها في المشروع الوطني هو رهان خاسر.
وكل يوم تأخير يعني سقوط منطقة جديدة، أو مجزرة جديدة، أو مزيداً من الانقسام.
بقاء سوريا كوطن موحد آمن لا يمكن أن يتحقق عبر سلطة تستمد مشروعيتها من الخارج ومن الفوضى والهيمنة.
بل عبر قوة سياسية مدنية واضحة المعالم، تحمل مشروعاً وطنياً جامعاً، وتطرح نفسها بديلاً مسؤولًا، قبل أن يُفرض على السوريين اختيار بين راديكالية متغولة أو دويلات طائفية متناحرة.
ليفانت: شادي الخش
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!