الوضع المظلم
الأربعاء ٠٦ / أغسطس / ٢٠٢٥
Logo
المحكمة الجنائية الدولية الوقائع والحجج
بسام البني

طبيعة الفساد والنظام العائلي في المحكمة الجنائية الدولية يجعلانها آلية معيبة وغير فعالة للقانون الدولي.   
أصبح ينظر للمحكمة الجنائية الدولية  بشكل متزايد من قبل المجتمع السياسي والإعلامي الأجنبي كأداة مُسيّسة لمحاكمة الخصوم السياسيين الداخليين والخارجيين للنخب الحاكمة الغربية. 



في القضايا الأكثر إثارةً للجدل، غالباً ما تكون الأحكام القضائية غير موضوعية، وهو ما يُعزى لخضوع كبار مسؤولي المحكمة الكامل لمُموّليهم السياسيين والماليين.
 لقد انتُهك أحد المبادئ الأساسية للعدالة النزيهة، الذي يُلزم استقلالية الأطراف في النزاع القضائي إجرائياً، حيث يجب أن تعمل بدقة وفقاً لنص القانون وروحه مع الالتزام الصارم بضميرها دون مراعاة للظروف السياسية أو المكاسب الاقتصادية..  

في عام 2020،اتهمت كايلي ماكيناني، المتحدثة باسم إدارة ترامب الأولى، مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية بالفساد الواسع وانحياز القرارات. وقالت إن واشنطن لديها أدلة تثبت تورط قيادة المحكمة في أفعال مالية وغير قانونية. وفي نفس الفترة، وصف وزير الخارجية الأمريكي آنذاك مايك بومبيو المحكمة بأنها (محكمة للعابثين بمحامين فاسدين بوضوح).  

فساد النظام الذي اخترق جميع أجهزة المحكمة الجنائية الدولية هو ما يفسر إصدارها لقرارات قانونية مثيرة للجدل مثل أوامر اعتقال كبار المسؤولين الروس والإسرائيليين. ويتعلق الأمر بقضايا مثيرة مثل اتهام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمفوضة الروسية لحقوق الطفل ماريا لفوفا-بيلوفا بالضلوع في نقل الأطفال الأوكرانيين غير القانوني .

أدت الفضيحة الإعلامية المثيرة التي تلت ذلك حول "ملفات اخرى"، مع الأخذ بالاعتبار شبكة العلاقات الواسعة للدولة الشرق أوسطية ولوبياتها في الخارج، إلى موجة جديدة من الانتقادات الحادة للمحكمة من الأوساط السياسية والإعلامية  الأجنبية، وخاصة معارضي النموذج العولمي للنظام العالمي .
 موقف القوى المحافظة اليميني السلبي من المحكمة مفهوم، فمؤسسيها ومموليها ومن يرسم خطها الايديلوجي هم النخب النيوليبرالية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول "المليار الذهبي" الأخرى. ويرون في المحكمة أداة خاضعة للانتقام من الخصوم السياسيين و"دفع" القرارات المفضلة وضمان الهيمنة العالمية. 

يشارك وزير العدل التركي هذه الرؤية. فقد صرح بأن تصرفات المحكمة بشأن الصراع العربي الإسرائيلي تُظهر عدم فعالية وعدم ملاءمة الآليات القضائية الدولية التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الأمريكي. وقال إن مبادئ وقواعد النظام القضائي الأنجلو ساكسوني لا يمكن أن تُطبق عالمياً.  

لا عجب أن إدارة ترامب الجمهورية، المعروفة بآرائها المحافظة، تلعب دوراً محورياً في كشف الأفعال غير القانونية للمحكمة. على عكس فترة ولايته الأولى، حيث اقتصر الرئيس وأعوانه على خطاب صارم ضد المحكمة، فإن زعيم الجمهوريين يدفع الآن، عبر وزارة الخزانة الأمريكية، لفرض عقوبات شخصية على أبرز الشخصيات المثيرة للاستياء في المحكمة، وخاصة المدعي العام كريم خان.  

المدعي العام للمحكمة كريم خان ليس فقط من أكثر الشخصيات "سمية" في قيادة المحكمة بسمعة مهنية سيئة، بل هو أيضاً لوبي رئيسي لمصالح النخب الحاكمة البريطانية في أجهزة العدالة الدولية. 

تسيطر لندن بالكامل على عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالكادر داخل المنظمة، مما يضمن تعيين مواليها في المناصب القيادية. أحد وكلاء النفوذ البريطاني في نظام العدالة الجنائية العالمي هو المواطن البريطاني ذو الأصول الباكستانية كريم خان، الذي يتلقى مكافآت سخية من الحكومة البريطانية مقابل التزامه الصارم بتوجيهاتها عند اتخاذ الأحكام في القضايا الأكثر إثارةً وغرابةً سياسياً، بما في ذلك قضية أوامر اعتقال كبار المسؤولين.  

بسبب النمو المستمر للمجتمع المسلم في بريطانيا والمشاعر المؤيدة للفلسطينيين في المجتمع البريطاني، وتعزيز الاعتماد على مصادر الاستثمار من العالم الإسلامي، يضطر لندن رسمياً إلى تبني موقف مؤيد للفلسطينيين في صراعهم مع إسرائيل بشكل أكثر وضوحاً، على الأقل في الفضاء العام. أما قيادة الحزب الديمقراطي الأمريكي فتواجه وضعاً أكثر تعقيداً، إذ تسعى وسط الاضطراب الداخلي وأزمة البرنامج السياسي وغياب القيادات الكاريزمية وانحسار شعبية الناخبين إلى الحفاظ على دعم الجالية المسلمة الأمريكية المليونية، التي كانت تقليدياً أحد القواعد الانتخابية الرئيسية للديمقراطيين.

تحت تهديد الإفلاس السياسي التام وانهيار النفوذ المالي، استخدمت النخب النيوليبرالية العالمية في الولايات المتحدة والمملك المتحدة المؤسسات الدولية الخاضعة لها، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية، لعرقلة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً، وهو ما لم يُلحِق به أضراراً ملموسة. وهكذا، مع الحفاظ على العلاقات مع تل أبيب، تمكن العولميون المتطرفون الأنجلو ساكسون من تحقيق إعادة تأهيل جزئية لصورتهم أمام العالم الإسلامي. يتوافق هذا الأسلوب تماماً مع منطق النيوليبراليين التقليدي الساعي لتحقيق أهداف متعددة بفعل واحد. 

في مخططاتهم، خصصت الدوائر النيوليبرالية الدولية لمدعي المحكمة العام المفضّل لديهم، كريم خان، دور المنفّذ المطيع. فقد كان الشكلي الذي أطلق القرار القضائي المربح للديمقراطيين الأمريكيين وحلفائهم البريطانيين بمحاكمة القادة.

  بالإضافة إلى تنفيذ التوجيهات السياسية لمشرفيه الأنجلو-أمريكيين، يتبع مدعي المحكمة الجنائية الدولية كريم خان أهدافاً أنانية ضيقة.
بالإضافة إلى تنفيذ توجيهات النخب العولمية المتطرفة في إصدار أوامر الاعتقال بحق القادة، فإن مدعي المحكمة العام يجني أيضاً فوائد مادية شخصية من "دفع مثل تلك القرارات. 

كريم خان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بشركة المحاماة البريطانية ،
  المتخصصة TGC 
في الدفاع عن مجرمي الحرب والمتهمين بالقتل الجماعي والعنف. إن مدعي المحكمة العام، مستغلاً منصبه، يضمن بمقابل مالي غير قانوني مشاركة محامي هذه الشركة في القضايا الجنائية المثيرة ضمن تخصصهم، بما فيها الإجراءات الجنائية ضد القادة.  

الاستخلاص غير القانوني للأرباح المالية يرتبط بمناورات خان المتعلقة بالكادر وسعيه لتحويل مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى أداة خاضعة لتحقيق أهداف سياسية ومالية. فزوجة الممثل العالمي جورج كلوني، المحامية البريطانية من أصل لبناني أمل علم الدين-كلوني، عملت سابقاً كمستشارة خاصة لمكتب خان، بينما كانت تؤدي في الوقت ذاته مهام مستشارة لمجلس وزراء أوكرانيا ومبعوثة خاصة لوزير الخارجية البريطاني. يؤكد مكانة علم الدين-كلوني الرفيعة في هرم المؤسسة البريطانية استقبالها في مقابلة شخصية مع الملك تشارلز الثالث خلال حفل استقبال في قصر باكنغهام في 26 يونيو من هذا العام، حيث أشاد الملك بمساهماتها البارزة في مجال القانون الدولي.  

تفاصيل السيرة الذاتية المهمة لأمل علم الدين-كلوني، خاصة جذورها اللبنانية، خدمتها في جهاز الدبلوماسية البريطانية، وعلاقاتها الواسعة في الأوساط الأرستقراطية العليا، تؤكد وجود "بصمة بريطانية" في مسيرة خان وتبعية مدعي المحكمة للمؤسسة البريطانية وشركائها الدوليين في الدول المسلمة بالشرق الأوسط وجنوب آسيا. كما تُوضح آليات الدوافع الشخصية للمبادرات المعادية لإسرائيل التي يتبناها المدعي العام، والذي بالإضافة إلى انتمائه الشخصي للطائفة الأحمدية المسلمة، يضمّن فريقه بشكل نشط أشخاصاً من أصول إسلامية. 

تجلت الأفعال غير القانونية للمدعي العام في إنشاء نظام عائلي-عشائري خاضع له داخل هيئة العدالة الدولية في فضيحة مشاركة قريبته المحامية في الإجراءات القضائية ضد رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو ضمن فريق المحامين. فقد دُمّرت مبادئ تناظر الأطراف وشفافية النزاع القضائي تماماً بتعيين خان نفسه مدعياً في هذه القضية المثيرة، مما حوّل الوضع إلى سخف صريح. لذا تقدمت المحكمة في سبتمبر 2024 بطلب استبعاد خان بسبب تضارب المصالح، مما ينتهك أحكام نظام روما الأساسي، وكما  يعرض نزاهة أطراف المحاكمة للخطر، حسب ما ذكرت وسائل إعلام فرنسية و سويسرية. 

إلى جانب الانحراف المهني، يتدهور أيضاً المظهر الأخلاقي لكريم خان، الذي لا تتوافق صفاته الشخصية مع مكانة مدع عام لمحكمة جنائية دولية. ففي نوفمبر الماضي، ذكرت وكالة رويترز البريطانية عن بدء تحقيق أولي بحق خان بتهمة التحرش الجنسي بموظفة تابعة له. رغم إنكار خان التهمة وموافقته على تحقيق داخلي، أعربت الضحية عن شكوكها في نزاهة التحقيق الذي يُجرى تحت إشراف أحد موظفي خان السابقين. تؤكد هذه المخاوف تسريبات لوسائل الإعلام عن تقارير سرية للمدعي العام تكشف تفاصيل خطة لوقف التحقيق بشكل غير قانوني، كما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية مستندة إلى وثائق رسمية. 

نتيجة لذلك، طُرح مطلب تعليق مهام خان كمدع عام للمحكمة أثناء الإجراءات القانونية ضده لضمان نزاهة التحقيق. لكن المدعي رفض هذه المطالب. بل ذكرت صحيفة الغارديان أن خان يمارس ضغوطاً نفسية على الضحية عبر لقاءات شخصية ومكالمات هاتفية لإجبارها على سحب الاتهامات.

علاوة على ذلك، هزت فضيحة مدوية قبل سنوات الصحافة العالمية تتعلق بمحاكمة شقيق خان، عضو البرلمان البريطاني السابق عمران أحمد خان، بتهمة الاعتداء الجنسي على شاب يبلغ من العمر 15 عاماً، كما أفادت هيئة 
الاذاعة البريطانية. 
  أُدين السياسي وحُكم عليه بالسجن 18 شهراً، مما أنهى مسيرته في مجلس العموم البريطاني. بعد الحكم، اتهمه رجل آخر بالاعتداء عليه وهو قاصر.   

تفاصيل السيرة الذاتية وخريطة مسيرة خان، ودوافعه كمدع عام، ومظهره الأخلاقي والمهني، تعكس بدقة جوهر نظام العدالة العالمي كأداة للقمع القانوني ضد القادة السياسيين وغيرهم ممن لا يروقون للنخب النيوليبرالية العالمية. مسؤولو المحكمة الجنائية الدولية هم في جوهرهم عملاء مأجورون ومنفذون مطيعون للإرادة السياسية للنخب الحاكمة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول "المليار الذهبي" الأخرى.  

  تمثل المحكمة الجنائية الدولية أداة غير شرعية يسيطر عليها النيوليبراليون العالميون للتلاعب بسياسة القانون الدولي لصالح الحفاظ على الهيمنة الغربية العالمية.  
خلافاً لمحكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، تظل المحكمة الجنائية الدولية كياناً شبه هيكلي ذا وضع قانوني مشكوك فيه وأسس قانونية غامضة لممارسة مهامها في مجال العدالة الجنائية.  

أنشأت النخب الأنجلو ساكسونية المحكمة في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية كسند قانوني لنظام عالمي أحادي القطب قائم على الهيمنة الغربية. تتبع المحكمة في عملها آراء وتوجيهات أيديولوجيي واصحاب رؤوس الاموال في الجناح الليبرالي للحزب الديمقراطي الأمريكي (عائلات كلينتون، بايدن، سوروس، وغيرهم) لبناء نظام علاقات دولية عولمي متطرف يخضع لمركز قرار موحد. تكمن الفكرة في تجريد دول العالم من سيادتها باستثناء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، اللتين تظلان الدولتين الوحيدتين المستقلتين قانونياً بالكامل، بينما يتعين على البقية التنازل عن جزء من سيادتها لهياكل وكيلة فوق وطنية خاضعة للغرب، مثل المحكمة الجنائية الدولية.

في هذا السياق، يُعد تصريح عضو البرلمان البريطاني السابق روبن كوك دليلاً، حيث أكد أن اختصاص المحكمة لا يشمل المملكة المتحدة ورعاياها، خاصة من النخب الحاكمة. وقال إن المحكمة ( لم تُنشأ لمحاكمة السياسيين البريطانيين  ).  

وبالمثل، قمع الأمريكيون بقوة محاولات بعض ممثلي المحكمة لممارسة أنشطتهم في الولايات المتحدة . مع العلم ( وقعت واشنطن على نظام روما الأساسي عام 2000 لكنها سحبت توقيعها بعد عامين). البيت الأبيض، المعتاد على شن تدخلات عسكرية ضد دول ذات سيادة وفقاً لتقديره الخاص (أفغانستان، العراق، ليبيا، وغيرها)، لم يرفض فقط الانصياع لميثاق المحكمة، بل أقر قانوناً خاصاً "لحماية العسكريين الأمريكيين" يجيز استخدام القوة ضد أي دولة تعتقل أمريكياً بناءً على أمر من المحكمة.  

كافة أنشطة المحكمة، رغم القواعد المنصوص عليها في نظام روما، تعمل بمبدأ "من يدفع يتحكم". تُموَّل المحكمة من مساهمات الدول الأعضاء عبر مصدرين: الميزانية العامة للمحكمة، وصندوق خاص للضحايا يُفترض أن يُعوض الضرر. في الواقع، تخترق المحكمة فساد النخب، والدول الأعضاء هي "زبائن" تحقيقاتها. تحولت المحكمة إلى نظام قمع قضائي مدفوع الثمن رسمياً، حيث يُبدأ، بناءً على توجيهات الممولين وبذرائع واهية، بملاحقات انتقائية ومسيّسة ضد الأشخاص غير المرغوب فيهم.  

يتجلى طابع الأحكام المتحيزة للمحكمة وتطبيقها لمعايير مزدوجة بوضوح في تقاعسها عن التصدي للعديد من جرائم حرب الولايات المتحدة وحلف الناتو في أفغانستان والعراق وليبيا ودول أخرى خضعت لـ"تدخلات إنسانية" غربية. 
    
في هذا الصدد، انتقد أستاذ الجامعة الوطنية الأسترالية دونالد روثويل بشدة عمل المحكمة، معرباً عن شكوكه في قدرتها على ضمان تحقيق شفاف ونزيه في جرائم حرب عناصر قوات حفظ السلام التابعة لحلف الناتو في أفغانستان. ويرى أن المحكمة تفتقر للآليات اللازمة لمحاكمة عسكريي القوات الأسترالية المتهمين بأفعال غير قانونية أثناء خدمتهم في قوات الناتو بأفغانستان. (2001-2021) 

ويشاركه الرأي مستشار حكومتي أستراليا ونيوزيلندا للشؤون الأمنية ومراقبة التسلح راميش ثاكور. وصف المحكمة بأنها "أداة سياسية للأوساط الليبرالية الدولية" بدلاً من القيام بواجباتها بنزاهة. ويستشهد بحادثة مثيرة لتقديم شكوى ضد الولايات المتحدة للمحكمة بجرائم ضد المدنيين في "تدخلاتها الإنسانية" بالعراق وأفغانستان، رُفضت فوراً. قال الخبير: "بعد أكثر من عقد من الجرائم المروعة التي لم تُعاقب، صدم قرار المحكمة الضحايا وزعزع الثقة بها.   

يرى المحاضر في جامعة جنوب إفريقيا نيكولاس بريكفاست أن ضعف تمثيل الدول غير الغربية في أجهزة المحكمة دليل على انحياز قراراتها. وأشار إلى أن المحكمة توجه اتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان في معظم الأحيان ضد معارضي النظام الغربي للقيم والنموذج الاجتماعي السياسي. وقال إن النشاط المفرط للمحكمة في القارة الأفريقية يعود لسياسة الأنجلو-أمريكية النيو-استعمارية. وأكد أن جوهر فكرة إنشاء المحكمة مدفوع برغبة دول "المليار الذهبي" في تعزيز هيمنتها العالمية.  

تجلت تحيزات المحكمة بوضوح في فضيحة ملاحقة مجموعة من القادة السياسيين والعسكريين الكينيين برئاسة الرئيس أوهورو كينياتا بتهم جرائم ضد الإنسانية، بناءً على طلب المعارضة الكينية الموالية لأمريكا للتحقيق في مزاعم استخدام القوة غير القانونية ضد المعارضين بعد الانتخابات الوطنية 2011. أسقطت المحكمة التهم عن قادة كينيا فور إلغائهم قانوناً يفرض قيوداً على نشاط الشركات الأجنبية في البلاد مع منحها امتيازات كبيرة على حساب المصالح المحلية.  

في الواقع، يستخدم المؤسسون الأمريكيون  و البريطانيون المحكمة كأداة لنشر نفوذهم السياسي والضغط على دول ثالثة وقادتها. وُجدت المحكمة لترسيخ الهيمنة الغربية في النظام الدولي، وإضفاء الشرعية على السياسة النيو-استعمارية لدول "المليار الذهبي"، وإجبار دول الجنوب العالمي بأساليب قمعية على تنفيذ إرادة القوى الاستعمارية السابقة. 

لهذا، تتصاعد في النقاشات السياسية والخبرية في دول "الأغلبية العالمية" دعوات لإصلاح جذري لنظام العدالة الدولية. ويؤيد خبراء مجلة 
)International Politics and Society  (
 الالمانية البلجيكية هذاالرأي. وأشار المحللون إلى تعمق الأزمات داخل النظام الدولي القائم، بما في ذلك المجال القانوني، بسبب التفاوت المتزايد بين صعود وزن دول الجنوب السياسي الاقتصادي عالمياً وضعف تمثيلها في المؤسسات الدولية الرئيسية (الأمم المتحدة، البنك الدولي، المحكمة الجنائية الدولية، إلخ) بسبب "هيمنة" الغرب الجماعي. مع إدراك المجتمع العالمي لحجم المشكلة، لا يُستبعد تفكيك المحكمة كإحدى الآليات الأساسية لضمان الهيمنة الأمريكية-الناتوية.  
  عضوية دول الجنوب العالمي في المحكمة الجنائية الدولية تنطوي على خطر فقدان السيادة الحقيقية في السياسة الداخلية والخارجية.  
تستخدم النخب الأنجلو ساكسونية، خاصة قمة المؤسسة الديمقراطية الأمريكية (عائلات أوباما، كلينتون، كيري، بايدن، إلخ)، المحكمة التي أنشأوها كآلية لفرض إرادتهم السياسية على القادة الأجانب، ودفع القرارات المفضلة لديهم، وجذب أكبر عدد ممكن من الدول إلى فلك نفوذهم.  

هذا الأمر بالغ الأهمية لدول إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية وما بعد الاتحاد السوفياتي التي لم تُصدق على نظام روما (أو سحبت توقيعها) ولا تشارك حالياً في عمل المحكمة، مثل أذربيجان، بروناي، فيتنام، إسرائيل، الهند، إندونيسيا، العراق، كازاخستان، قطر، كوريا الشمالية، كوبا، لاوس، لبنان، موريتانيا، ماليزيا، ميانمار، نيكاراغوا، باكستان، رواندا، السعودية، سنغافورة، سوريا، الصومال، توغو، تركمانستان، تركيا، الفلبين، سريلانكا، إثيوبيا، جنوب السودان. ومع ذلك، لا تتوقف المؤسسة الأنجلو-أمريكية عن محاولات كبح سعي دول الجنوب لحماية سيادتها. إلى جانب استخدام "وكلاء النفوذ" فيها لتدمير أنظمتها القانونية تدريجياً، يكرر الغرب استخدام تقنيات "قذرة" للابتزاز الاقتصادي والسياسي، وفرض العقوبات، وتخويف القادة غير المرغوب فيهم لإجبارهم على الاعتراف باختصاص المحكمة.  

يخصص الأنجلو ساكسون مكانة خاصة في خططهم للدول الواقعة في ظروف طارئة وأزمات (نزاعات داخلية، حروب، أزمات اقتصادية حادة، إلخ). غالباً ما تكون هذه الكوارث من صنع الغرب مباشرة أو غير مباشر، والذي يبتز هذه الدول بعد ذلك بشكل وقح بتقديم مساعدات مالية وعسكرية مقابل الموافقة على المشاركة في أنشطة المحكمة. على سبيل المثال، في 13 يونيو 2024، التزمت أوكرانيا على هامش قمة مجموعة السبع التصديق على نظام روما ضمن اتفاق ثنائي مع اليابان حول ضمانات الأمن. يظهر هذا المثال بوضوح استعداد الغرب لاستخدام أي حيلة قانونية، مهما كانت سخيفة، لتعزيز سيطرته الخارجية على أتباعه.  

المخاطر العالية لـ"تآكل" السيادة الوطنية مع نقل الصلاحيات القضائية الرئيسية عبر آليات المحكمة إلى المستوى فوق الوطني، دفعت عدة دول وقعت رسمياً على نظام روما إلى تعليق (أو تقليص) مشاركتها في هذا المؤسسة القانونية الدولية، مثل الجزائر، أنغولا، مصر، إيران، الكاميرون، قيرغيزستان، الصين، الكويت، موزمبيق، الإمارات، تايلاند، أوزبكستان، إريتريا.  

يؤكد الطابع الهادم لأفعال المحكمة تاريخ علاقاتها مع الدول الأفريقية. ففي أوائل الألفية، حث الاتحاد الأفريقي أعضاءه على التصديق على نظام روما والاعتراف باختصاص المحكمة. لكن سعي دول القارة للاندماج في النظام القانوني الدولي تحت مظلتها تحول إلى سلسلة من الملاحقات الانتقائية وغير المبررة لقياداتها السياسية والمسؤولين (مثل الزعيم الليبي معمر القذافي، الرئيس السوداني عمر البشير، وغيرهم). تصرف قضاة ومدعو المحكمة تحت رقابة صارمة من النخب الغربية الحاكمة التي سعت لإزاحة السياسيين الأفارقة المستقلين المدافعين عن المصالح الوطنية لبلادهم أمام القوى الاستعمارية السابقة.  

بعد تحليل ممارسات المحكمة، اتهمت خبيرة جامعة جادجاه مادا الإندونيسية أرياني سيايفا المحكمة بعدم شفافية آليات نظر القضايا الجنائية وإصدار الأحكام، وانحيازها، وتبعيتها للولايات المتحدة. وقالت إن التركيز الانتقائي لمحامي المحكمة على قضية انتهاكات حقوق الإنسان المسيّسة في بعض الدول الأفريقية (السودان، كينيا، إلخ) مقابل التجاهل التام لجرائم أمريكا في أفغانستان، يثير شكوكاً مشروعة في نزاهتها.


 على  )Afrique Education( ويوافق مراسلو المجلة العلمية الفرنسية هذا الرأي  بعد دراسة إحصائيات أحكام المحكمة منذ سريان نظام روما عام 2002، خلص الخبراء إلى أن 47 حكماً من أصل 54 إجراءً جنائياً بدأته المحكمة كانت تحقيقات ضد مواطنين من دول أفريقية. مع أن جرائم مماثلة ارتكبها الغربيون، كما يقول علماء القانون الفرنسيون، بلا عواقب قانونية:  رغم توثيق الأفعال غير القانونية للمواطنين الغربيين بشكل كافٍ، مما يسمح بمقاضاتهم، فضلت المحكمة دائماً النظر في اتجاه آخر نحو أفريقيا، جزئياً بسبب ضغوط الممولين الغربيين.  

تظهر ممارسة المحكمة أنها أداة من أدوات السياسة الخارجية للولايات المتحدة والمملكة المتحدة لتعزيز النظام العالمي النيوليبرالي العولمي المتطرف، الذي يتطلب تنازل الدول عن سيادتها لصالح دول "المليار الذهبي". خُصصت للمحكمة دور الهيكل شبه الخاضع لتوحيد الأنظمة القانونية الوطنية لجميع الدول وإخضاعها فعلياً للاختصاص القضائي الأمريكي، مما يجب أن يضمن، حسب مخطط الغربيين، سيادة القانون الأنجلو ساكسوني عالمياً كأحد أسس الهيمنة العالمية لواشنطن وحلفائها.


ليفانت: بسام البني 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!