-
تركيا في المعادلة السورية: النفوذ، الحلم، والتأثير على المسار السياسي
بين تعقيدات المشهد السوري وتداخل المصالح والتحالفات الإقليمية، يظهر الدور التركي كعنصر قوي التأثير في عملية رسم وتخطيط ملامح المرحلة الانتقالية القادمة. فأنقرة ساهمت بكل السياسات التي من شأنها النفوذ والسيطرة بدل الشراكة كدولة جارة، وبرزت في المشهد السوري مجددا كأحد أبرز عناصر التعقيد والمثير للجدل في ظل مرحلة انتقالية حساسة، لا تزال في طور البحث عن المداواة والعلاج بصورة متوازنة تضمن حقوق الجميع وفي مقدمتهم الكورد، تحت شعار حفظ أمنها القومي على طول الشريط الحدودي مع مناطق شمال وشرق سوريا(روجآفايي كوردستان). بات الدور التركي محط جدل عبر طرح العديد من التساؤلات حول ما إذا ستسهم أنقرة فعليا في دعم المرحلة الانتقالية السورية، أم تعرقلها بشكل حقيقي من خلال أجندات تبقي سوريا رهينة معادلات التوازنات والنفوذ؟
أنقرة في المشهد السوري
تعد تركيا الحديثة، التي نشأت سنة 1923 تحت رعاية الثالوث اليهودي-البريطاني-الفرنسي بعد الانهيار التام للدولة العثمانية، ثاني أكبر وأقوى طرف عسكري في حلف الناتو، لكن تدخلها المستمر في شؤون الدول المجاورة يظهرها بمظهر الضعف في النظام العالمي بسبب عدائها للشعب الكوردي أينما كانوا.
تلعب تركيا الآن برئاسة أردوغان دورا جوهريا في بناء سوريا الجديدة، عبر تدخلاتها العسكرية والسياسية في المناطق الكوردية، ودعمها المتواصل للمجموعات المسلحة التي تنفذ أجنداتها داخل الأراضي السورية، ما يثير قلقا حول محاولاتها في فرض واقع ديموغرافي جديد يعكس أنانيتها المفرطة في حماية نفوذها ومصالحها العثمانية على حساب الشعب السوري، لتبلور بذلك توترات على المستوى الإقليمي تبرر التدخل الدولي.
في سياق ملف الشرق الأوسط، حاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تطبيق خطته الداعية للسلام تحت مسمى صفقة القرن، بمنأى عن سايكس بيكو، في المنطقة برمتها التي لا تزال تعاني الأمرين في أزماتها لا سيما في كل من سوريا والعراق وإيران ولبنان وصولاً لغزة التي توقف فيها إطلاق النار منذ أيام، وفقا للخريطة التي طرحها ترامب بإشراف مباشر منه ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق طوني بلير وبمشاركة الدول العربية. بالمجمل أعتقد موجة الانتكاسات تتواصل وهي في طريقها إلى داخل الجمهورية الإيرانية الآن، وقد تمتد قريبا لتشمل أنقرة.
شرعية أردوغان على المحك
شرعية أردوغان هي موضع شك، وذلك بسبب محاولاته المستميتة والمقيتة في الضغط على بعض الدول لمساعدته في إفشال أي طرح يتعلق بالقضية والشعب الكوردي لا سيما في مناطق شمال وشرق سوريا، حيث سعى أردوغان، ولا يزال، لضرب هذه المنطقة الكوردية للنيل من الكورد بذريعة حفظ وحماية أمنها القومي على طول الشريط الحدودي، وهذا ما أشار إليه ترامب عندما صرح بأن تركيا استطاعت فرض سيطرتها على أجزاء كبيرة من سوريا عبر الفصائل المسلحة التابعة لها، ما يؤكد وبشدة على مسؤولية أنقرة عن كافة الانتهاكات التي ارتكبت بحق السوريين والسوريات.
وبسبب المخاوف التي تبديها إسرائيل من التمدد التركي، الذي لا يقل خطرا عن التمدد الإيراني، في عمق الأراضي السورية عبر محاولتها إنشاء قواعد عسكرية في بعض المواقع، استنكرت النفوذ التركي في العمق السوري حفاظا على أمنها القومي وأيضا في محاولة منها منع أنقرة من فرض هيمنتها على مسار العملية السياسية والعسكرية في سوريا، رغم المصالح والنفوذ الأمنية والعسكرية والاقتصادية التي تعتبر صلة وصل رئيسية بين إسرائيل وتركيا، لذا سيكون من الصعب إبعاد تركيا بشكل كلي، لكن لكل شيء ثمنه.
الحلم التركي
تحاول أنقرة استكمال وتطبيق قانون "إصلاح الشرق" عبر عمليات التغيير الديموغرافي التي تمت بإشراف كمال أتاتورك عام 1925م، وذلك بإنهاء الوجود والهوية الكوردية من الشمال السوري بصورة أساسية ونسبة من المكون العربي بشكل ثانوي في مسعى لدمجها بالدولة(الولايات التركية) آنذاك. فأنقرة تهيمن بشكل فعلي على مناطق الشمال السوري ساعية في تثبيت وجودها العسكري كما في مطار كويرس العسكري الذي حولته لقاعدة تركية، ما يؤكد الفحوى من خطاب الرئيس الأمريكي حول تحقيق تركيا لحلمها في فرض نفوذها والاستحواذ على سوريا.
وبالمقابل، يفسَّر خطاب ترامب وبشكل غيرمباشر أنه منح أنقرة الضوء الأخضر وكلمة المرور سرا في قيامها بعمليات عسكرية ضد القوى الكوردية ليس فقط للقضاء على قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية التي تحكم مناطق شمال شرق سوريا كما تعتقدها أنقرها، بل ربما، واحتمال كبير، أن تكون لعبة شرسة من ترامب لإدخال تركيا في مأزق معقد، في حالة مشابهة لما حصل في مناطق جبل العرب بالسويداء، حيث تورطت السلطات الانتقالية في ملف الدروز بعد الحصول على الموافقة الإسرائيلية، لكن النتيجة جاءت عكس المتوقع لا سيما بعد تدخل الأمن العام وعشائر البدو(الفزعة العشائرية)، ما دفعت بالسويداء نحو تشكيل إدارة خاصة بها مطالبة بالانفصال عن سوريا.
وفي ذات السياق، باتت الإدارة الذاتية أحد أكبر الأطراف الرئيسية، بل واللاعب الأقوى في مسار توازن المعادلة السورية، ما يجعلها أكثر عرضة لأي هجوم سواء من قبل أنقرة أو حتى من قبل السلطات الانتقالية في حين عدم تطبيق بنود اتفاق العاشر من آذار2025 الذي تم بين السلطات الانتقالية ممثلة بالرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية بقيادة الجنرال مظلوم عبدي.
إن النفوذ الروسي العسكري قد تراجع بشكل كبير لا سيما بعد هروب نظام الأسد، لكنه بذات الوقت يلعب دورا في هذا السياق، حيث قواعدها العسكرية وعلى رأسها حميميم ذو أهمية قصوى بالنسبة لإسرائيل وأمريكا. وفي ظل تمدد الهيمنة التركية وعلى وجه الخصوص في الساحل السوري وتمدد النفوذ الإسرائيلي التي تنظر إلى روسيا كقوة فاعلة عظمى، ربما تشكل هذه الهيمنة التركية، إن حصلت، خطرا حقيقيا على التواجد الروسي لا سيما بعد انهيار العلاقات بينهما وميل أمريكا في تثبيت الوجود التركي في الجانب الغربي من البلاد.
وبغية حماية وجوها العسكري، فإن روسيا سيكون لها الدور الأبرز للدفاع عن قسد، ومساندة الساحل السوري في حال قيام تركيا بشن هجوم على المنطقة. وتعتبر زيارة رئيس هيئة الأركان العامة في السلطة الانتقالية علي النعسان إلى موسكو كتوكيد على حماية نفوذها أمام تعهدها بالتنحي عن دعم قوات سوريا الديمقراطية في حال أي هجوم محتمل وقريب.
التأثير على العملية السياسية
لا يقتصر التدخل التركي على الأبعاد العسكرية فحسب، بل يمتد ليشمل إطار العملية السياسية بشكل مباشر معرقلا محاولات التوصل لأي اتفاق بين الأطراف السورية، عبر دعمها المباشر للسلطات الانتقالية وتحريضها ضد الكورد بذريعة أن القوى الكوردية تهدد استقرار سوريا في حال عدم الانضواء تحت مظلة السيادة السورية الجديدة، ما يعيق صياغة دستور جديد أو أية فرصة من شأنها تسوية الملف السياسي السوري - السوري والتأثير فعليا على مخرجات المسار السياسي، وتوليد مشهد وفقا للحلم التركي. كما تمارس تركيا ضغوطا على بعض الدول مثل أمريكا وروسيا لمساندتها وتقديم يد العون لها في تقوية مشاريعها الاستيطانية في سوريا. هدف الحلم العثماني هو إفشال الحلول المستدامة والقضاء على أي حل سياسي سوري داخلي لإشباع رغباتها في السيطرة على الأراضي السورية وفق ما تتطلبه الخطط الاستراتيجية لأنقرة لا سيما فيما هو مرتبط بقضية الشعب الكوردي والقسم الشمالي.
في المحصلة، يبقى التدخل التركي في سوريا الآن عاملا مركبا في رسم ملامح سوريا في المرحلة الانتقالية، بين الحلم العثماني وطموحات تركيا الاستراتيجية، والتأثير المباشر على مسار العملية السياسية وخصوصاً القضية الكوردية وحقوق الشعب الكوردي. لا يمكن تجاهل الدور التركي بوصفه الممارس لسياسة الهيمنة والتمدد على حساب الشعب الكوردي، ما يجعله موضع جدل متواصل، وبالتالي تدخل سوريا في عجلة التحديات مجددا، ما يبقيها رهينة التوازنات الإقليمية والدولية، وأي خطوة ساعية لتحقيق الاستقرار الدائم في سوريا متعلقة بشكل مباشر بقدرة كافة الأطراف على تخطي الرؤية والطموح أحادي الجانب بما يضمن تسوية متوازنة وشاملة للجميع.
ليفانت: زينه عبدي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

