-
دور الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في تنامي خطاب الكراهية في العراق

في عصر تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي وتتشابك شبكات المعلومات، تبرز قضية خطاب الكراهية كإحدى أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة. لم تعد هذه الظاهرة مقتصرة على الخطابات السياسية التقليدية أو المنابر الدينية المتطرفة، بل امتدت لتشمل الفضاء الرقمي الواسع الذي يضم مليارات المستخدمين حول العالم. وفي قلب هذا التحول الجذري، تقف المؤسسات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي كفاعلين محوريين، يحملون في طياتهم قدرة مزدوجة على بناء الجسور أو هدمها، على نشر التسامح أو تأجيج نيران الفرقة.
إن الإعلام، بوصفه السلطة الرابعة في المجتمعات الديمقراطية، يحمل مسؤولية جسيمة في تشكيل الوعي الجماعي وصياغة الآراء العامة. وقد شهدت العقود الأخيرة تحولاً جذرياً في طبيعة المشهد الإعلامي، حيث انتقلت السلطة من حراس البوابات التقليديين إلى منصات رقمية تتيح لأي فرد أن يصبح ناشراً ومؤثراً. هذا التحول الديمقراطي للمحتوى، رغم إيجابياته الكثيرة، فتح المجال أمام انتشار أشكال جديدة ومعقدة من خطاب الكراهية، تتسم بسرعة الانتشار وصعوبة السيطرة عليها.
تتجلى خطورة هذه الظاهرة في قدرتها على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، حيث يمكن لرسالة كراهية واحدة أن تنتشر عبر القارات في غضون دقائق، محملة بقوة تدميرية قادرة على زعزعة الاستقرار الاجتماعي وتأجيج الصراعات الطائفية والعرقية. وما يزيد من تعقيد هذا المشهد هو التطور المستمر لتقنيات الذكاء الاصطناعي وخوارزميات التوصية، التي قد تساهم - دون قصد أحياناً - في تكوين غرف صدى رقمية تعزز الأفكار المتطرفة وتغذي المشاعر العدائية.
في هذا السياق المعقد، تبرز الحاجة الملحة لفهم عميق لدور المؤسسات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي في هذه المعادلة الحساسة. كيف تساهم هذه المنصات في تنامي خطاب الكراهية؟ وما هي الآليات النفسية والتقنية التي تجعل بعض المحتوى أكثر قابلية للانتشار من غيره؟ وأين تقع المسؤولية الأخلاقية والقانونية لهذه المؤسسات في مواجهة هذا التحدي؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة ليست مجرد تمرين أكاديمي، بل ضرورة حيوية لحماية نسيج مجتمعاتنا من التفكك، ولضمان استمرارية قيم التسامح والتعايش السلمي في عالم متزايد التعقيد والترابط. ولعل أهمية هذا البحث تتضح أكثر عند النظر إلى الأحداث المأساوية التي شهدها العالم مؤخراً، من جرائم كراهية مروعة إلى انقسامات مجتمعية حادة، كانت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي تلعب دوراً محورياً في تأجيجها أو في محاولة احتوائها.
من هذا المنطلق، يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الأبعاد المختلفة لهذه الإشكالية المعقدة، مستكشفاً الطرق التي تساهم بها المؤسسات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي في تنامي خطاب الكراهية، وباحثاً في الحلول الممكنة والاستراتيجيات الفعالة لمواجهة هذا التحدي الحضاري الكبير.
صناع الضلال
معظم وسائل الإعلام في العراق تتبع لأحزاب سياسية أو رجال أعمال مرتبطين بها، مما يجعلها أدوات لترويج أجندات سياسية ضيقة بدلاً من خدمة المصلحة العامة. هذا الإعلام المحزب يركز على تصوير الخصوم السياسيين بشكل سلبي.
القنوات التلفزيونية والإذاعية غالباً ما تستضيف متحدثين يروجون لخطاب الكراهية دون تحدٍ أو مساءلة. البرامج الحوارية تتحول إلى منصات لإطلاق الاتهامات والشتائم بدلاً من النقاش الموضوعي للقضايا.
صناعة الوهم
الصحف والمواقع الإلكترونية تنشر أخباراً مفبركة أو محرفة لخدمة أجندات معينة. العناوين الاستفزازية والصور المضللة تهدف إلى إثارة المشاعر السلبية ضد مجموعات معينة. مقالات الرأي تتحول إلى منصات للتحريض بدلاً من التحليل الموضوعي.
غياب المعايير المهنية وضعف آليات المساءلة يسمح لهذه الممارسات بالاستمرار. الصحفيون أنفسهم، تحت ضغط المالكين أو التهديدات الأمنية، يجدون أنفسهم مجبرين على ترويج خطابات لا يؤمنون بها.
فن التلاعب بالعقول
وسائل الإعلام تستخدم تقنيات متطورة للتلاعب بالمعلومات وتوجيه الرأي العام. انتقاء الأخبار وتأطيرها بطريقة معينة، واستخدام الإحصائيات المضللة، وإخفاء المعلومات المهمة، كلها تقنيات تستخدم لصناعة واقع مزيف يدعم الأجندات السياسية.
الوحوش الرقمية
منصات التواصل الاجتماعي تتيح انتشار خطاب الكراهية بسرعة هائلة وعلى نطاق واسع. أکس وفيسبوك وتيليجرام واتساب تستخدم لنشر الإشاعات والدعاية المضللة. سهولة إنشاء حسابات وهمية وصعوبة التحقق من الهوية تسمح بانتشار المحتوى الضار دون مساءلة.
الخوارزميات التي تحكم هذه المنصات تفاقم المشكلة من خلال تعزيز المحتوى الذي يثير ردود فعل قوية، وهو غالباً المحتوى الاستفزازي أو المثير للجدل. هذا يخلق “غرف صدى” حيث يتعرض المستخدمون فقط للآراء التي تتفق مع معتقداتهم المسبقة.
جيوش الظل
مجموعات منظمة تستخدم هذه المنصات لشن حملات تحريض ممنهجة. استخدام الحسابات المزيفة لتضخيم رسائل معينة، وتنسيق الهجمات على شخصيات أو مجموعات محددة، والتلاعب بالترندات لجعل موضوعات معينة تبدو أكثر شعبية مما هي عليه فعلاً.
هذه الحملات غالباً ما تستهدف النشطاء والصحفيين والمثقفين الذين يحاولون تعزيز خطاب التسامح والتعايش. التنمر الإلكتروني والتهديدات تهدف إلى إسكات الأصوات المعتدلة وترك المجال للخطاب المتطرف.
جيل ضائع
الشباب، كونهم الأكثر نشاطاً على وسائل التواصل الاجتماعي، هم الأكثر تعرضاً لتأثير خطاب الكراهية. غياب التفكير النقدي والميل الطبيعي للتمرد يجعلهم عرضة للانجذاب إلى الخطابات المتطرفة التي تقدم إجابات بسيطة لمشاكل معقدة.
المحتوى المصور والفيديوهات القصيرة تجعل رسائل الكراهية أكثر جاذبية وسهولة في الاستهلاك. حتی المحتوى الفكاهي يستخدم لتطبيع الأفكار المتطرفة وجعلها تبدو عادية أو مقبولة.
النفق المظلم
يجب إعادة هيكلة المشهد الإعلامي العراقي ووضع معايير مهنية صارمة تمنع نشر خطاب الكراهية. إنشاء مجلس إعلامي مستقل يراقب المحتوى ويعاقب المخالفين، وتطوير قوانين تجرم التحريض على الكراهية مع ضمان حرية التعبير.
تدريب الصحفيين على الممارسات المهنية والأخلاقيات الإعلامية، وتوفير الحماية القانونية والأمنية للصحفيين المحترفين الذين يلتزمون بالمعايير المهنية. دعم وسائل الإعلام المستقلة التي تروج لخطاب التسامح والتعايش.
زرع المحبة
إصلاح المناهج التعليمية لتركز على المواطنة بدلاً من الهويات الفرعية، وتضمين مواد تعلم التفكير النقدي والتسامح واحترام التنوع. تدريب المعلمين على كيفية مواجهة خطاب الكراهية وتعزيز قيم التعايش في الفصول الدراسية.
تطوير برامج توعية للشباب حول مخاطر خطاب الكراهية وكيفية التعرف عليه ومواجهته. استخدام وسائل التواصل الاجتماعي نفسها لنشر رسائل إيجابية وتعزيز الحوار البناء بين المكونات المختلفة.
نحو ديمقراطية حقيقية
بناء نظام ديمقراطي حقيقي يقوم على المواطنة والكفاءة. تطوير آليات للمصالحة الوطنية تشمل الاعتذار عن الأخطاء التاريخية، وإنصاف الضحايا، وبناء ذاكرة تاريخية مشتركة تركز على التجارب الإيجابية للتعايش.
ترويض الوحوش الرقمية
وضع قوانين ولوائح تنظم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وتمنع نشر خطاب الكراهية مع احترام حرية التعبير. التعاون مع الشركات العالمية لتطوير أدوات أكثر فعالية لرصد وإزالة المحتوى الضار بالعربية.
إنشاء وحدات متخصصة في أجهزة الأمن للتعامل مع الجرائم الإلكترونية وخطاب الكراهية على الإنترنت. تدريب القضاة والمحققين على التعامل مع هذا النوع من القضايا.
جنود السلام
تعزيز منظمات المجتمع المدني التي تعمل على تعزيز السلام والتسامح، وتوفير الدعم المالي والتقني لها. تطوير شبكات من النشطاء والمثقفين والقادة الدينيين والاجتماعيين لمواجهة خطاب الكراهية.
تنظيم حملات توعية مجتمعية تستهدف مختلف شرائح المجتمع، واستخدام الفن والثقافة كأدوات لتعزيز رسائل التسامح والتعايش. دعم المبادرات المحلية التي تهدف إلى بناء جسور التواصل بين المكونات المختلفة.
ليفانت: نوري بیخالي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!