الوضع المظلم
الإثنين ١٦ / يونيو / ٢٠٢٥
Logo
صُنع في تل أبيب
شادي عادل الخش 

لا يمكن لأي باحث أو مراقب جاد أن ينظر إلى مشهد الشرق الأوسط كمنطقة متعددة الأزمات وحسب، بل كحيّز جغرافي–سياسي يخضع منذ عقود لهندسة استراتيجية متدرّجة، تقوم على إعادة تركيب الخرائط من خلال أدوات الحرب، والتفكيك المؤسساتي، وتدويل الصراعات، وخلق بدائل وظيفية للسلطة السيادية. لم تكن الحروب التي عصفت بالمنطقة، بدءًا من نكسة 1967 وحتى التفجير الإسرائيلي لمواقع في العمق الإيراني مؤخرًا، مجرد أحداث متفرقة في الزمان والمكان، بل حلقات متّصلة في سلسلة إعادة إنتاج التوازنات الدولية وفق مشروع غايته ضبط الشرق الأوسط بما يخدم التحالف الأطلسي–الإسرائيلي في مواجهة الخصوم المتبدّلين باطراد.

لقد خضعت الجغرافيا العربية منذ أكثر من نصف قرن لسلسلة موجّهة من التحولات العسكرية، بدأت بتفكيك القوى المركزية التي كانت تشكّل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، فحُيّدت مصر من خلال كامب ديفيد، واستُنزف العراق بالحرب ثم أُسقط بالغزو، واستُدرجت سوريا إلى استنزاف داخلي استمر حتى تآكلت بنيتها العسكرية والمدنية بالكامل، وتحوّل جنوبها إلى منطقة رخوة تخضع لاختراق إسرائيلي متسارع. ورافق هذه الحروب التقليدية نمط جديد من التلاعب بالبنى الاجتماعية والدينية، من خلال إذكاء الانقسامات الطائفية، وتسليح الهويات الفرعية، وزرع أدوات الحكم بالوكالة، حتى لم تعد هناك دولة عربية قادرة على ضبط جغرافيتها دون تفاهمات أمنية مع الخارج.

الولايات المتحدة، التي تخلّت تدريجيًا عن الوجود العسكري المباشر بعد غزو العراق، لم تغادر فعليًا. بل أعادت صياغة حضورها من خلال إنشاء نظام تحالفات إقليمي مرن، يتوزع بين اتفاقات أمنية مع دول الخليج، وتطبيع وظيفي مع إسرائيل، ودعم لأطر الحكم اللامركزي في الدول الممزقة. ومع إدارة بايدن الثانية، بدا جليًا أن التحول نحو شرق أوسط جديد لم يعد هدفًا مؤجّلًا بل أجندة حاضرة، خصوصًا مع المشروع الطموح لربط الهند بأوروبا عبر إسرائيل وموانئ الخليج، وتحويل إسرائيل إلى مركز تنسيق اقتصادي وأمني عابر للحدود.

في هذا السياق، لم تعد إسرائيل تكتفي بحماية أمنها، بل باتت تسعى لتوسيع نطاق نفوذها الإقليمي إلى ما يتجاوز حدودها الجغرافية، من خلال ضرب مواقع حماس في غزة، واحتواء حزب الله في الجنوب اللبناني، وتصفية قيادات فلسطينية في الخارج، واستهداف منشآت داخل إيران، في أول عملية مباشرة من نوعها منذ عقود. الضربات الإسرائيلية الأخيرة على العمق الإيراني لم تكن مجرد رد فعل، بل إعلان ميداني عن ولادة مرحلة جديدة من الصراع المفتوح، تُدار فيه الجغرافيا من الجو، وتُخترق فيه السيادة تحت ذرائع "الردع الاستباقي"، بينما تلتزم القوى الكبرى الصمت أو الدعم الضمني.

ضمن هذه المعادلة، تبدو سوريا اليوم واحدة من أكثر الدول التي دفعت ثمن هذه الهندسة الجديدة. فبعد عقد ونصف من الحرب، باتت خارطتها ممزقة، وقواها المسلحة موزعة بين فصائل محلية، وميليشيات إقليمية، وقوات أجنبية، بينما تلاشت أي إمكانية حقيقية لبعث جيش وطني قادر على إعادة توحيد القرار السيادي. الجنوب السوري، الذي كان يشكل في السابق عمقًا دفاعيًا للجيش السوري، تحوّل إلى منطقة عازلة لإسرائيل، تُدار أمنيًا عبر الطائرات المسيّرة والتنسيقات الميدانية غير المعلنة، وتخترقه الشبكات الإسرائيلية عبر بوابات استخبارية وجمعيات مدنية، وإعادة تنظيم مشهدي يُمهّد على المدى المتوسط لواقع ميداني يُشبه الحزام الأمني.

على المستوى السياسي، فإن حكومة ما بعد الأسد، الممثلة بأحمد الشرع، ورغم ادعائها أنها تعبّر عن لحظة تحوّل وطنية، تقف على أرض رخوة بين رفض دولي غربي بسبب مرجعياتها، وانقسامات داخلية بسبب هشاشة مشروعها، وعجز عملي عن التعامل مع الوقائع المعقدة التي فرضتها السنوات الماضية. السلطة الجديدة تبدو محاصَرة: لا هي قادرة على السيطرة الكاملة، ولا على خلق توازنات داخلية مستقرّة، ولا حتى على استقطاب اعتراف خارجي بلا أثمان سياسية باهظة. وهكذا، تبقى سوريا تحت طائلة المساومات: إما أن تُدمج ضمن منظومة الأمن الإقليمي الجديدة بشروط تُفقدها استقلالها، أو تبقى منطقة رمادية محكومة بالتقاسم الضمني بين القوى الفاعلة.

اقتصاديًا، لا يختلف المشهد كثيرًا. الاقتصاد السوري ليس منهارًا فحسب، بل مُفكّك من جذوره. موارده الحيوية خارج نطاق الحكومة، بنيته الإنتاجية منهوبة، وسوقه المالية رهينة للمضاربة والتهريب، بينما ترتبط كل مشاريع الإعمار أو التمويل الدولي بصفقات مشروطة تبدأ من بوابة التطبيع، وتنتهي عند إعادة رسم شكل الدولة نفسها. ومع توسع المسارات البديلة لتدفق التجارة العالمية بعيدًا عن الأراضي السورية، وإعادة رسم ممرات الطاقة والنقل والموانئ، يبدو أن سوريا لن تكون جزءًا من المنظومة الاقتصادية القادمة إلا من موقعها الهامشي كدولة مستهلكة تابعة، لا منتجة فاعلة.

إن خطورة اللحظة لا تكمن فقط في تراجع الدور السوري، بل في تحوّل الدولة ذاتها إلى كيان مشلول، مُعرّض للتفكك التلقائي أو الإدماج القسري ضمن مشاريع لا تملك بشأنها أي قرار. في ظل هذه الظروف، لم تعد الوطنية شعارا نهتف به، بل ضرورة وجودية. فإما أن يتم إنتاج مشروع سيادي جامع يعيد توحيد الجغرافيا، ويُعيد بناء مؤسسات الدولة على أسس غير طائفية ولا وظيفية، ويطلق عملية استقلال القرار الوطني، أو تُسلّم البلاد لمعادلات التقاسم الدولية باسم الاستقرار، وتُختزل إلى وظيفة جغرافية في مشروع لم تصنعه، بل فُرض عليها.

إن الشرق الأوسط لا يُعاد تشكيله من خلال الصدفة، بل بمنهجية واعية: تحييد كل قوة محتملة، تفكيك كل نسيج متماسك، واستبدال كل منظومة وطنية ببنية وظيفية. وفي هذا المشروع، لا مكان لسوريا القوية. المطلوب هو سوريا المحايدة، المُراقَبة، المُسيطَر عليها، والتي تُستخدم عند الحاجة وتُعزل عند الانتهاء. والخروج من هذا المصير لا يكون بمزيد من الشعارات، بل بإرادة سياسية واقعية، تبني ولا تكرر، وتجمع ولا تقصي، وتؤمن أن التحرر لا يبدأ من الأطراف، بل من مركز القرار.

شادي عادل الخش 


 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!