الوضع المظلم
السبت ٢١ / يونيو / ٢٠٢٥
Logo
  • بين تفكّك إسرائيل وصعود الخليج…أميركا تغيّر الشرق الأوسط وسوريا غائبة

بين تفكّك إسرائيل وصعود الخليج…أميركا تغيّر الشرق الأوسط وسوريا غائبة
شادي عادل الخش 

في لحظة فارقة من التحولات الدولية، تتكشف أمامنا ملامح منعطف تاريخي غير مسبوق في علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع حليفتها التقليدية إسرائيل. هذه العلاقة، التي لطالما كانت رمزًا للتحالف العضوي المطلق، بدأت اليوم تُعاد قراءتها بعين باردة، واقعية، وربما مؤلمة من وجهة النظر الإسرائيلية. إذ يبدو أن واشنطن، تحديدًا في ظل قيادة دونالد ترامب، قد بدأت في التحوّل من حليف منحاز إلى مراجع حسابات، يزن الكلفة بالعقل لا بالأسطورة، وبالمصلحة لا بالارتباط العقائدي. وهذا الانقلاب لا يعني فقط إعادة تقييم لحليف قديم، بل يؤشر إلى إعادة هندسة كبرى لمعادلات النفوذ في الشرق الأوسط، وتغيير في البوصلة الأمريكية نحو شركاء أكثر فاعلية وأقل تكلفة، في مقدمهم دول الخليج العربي.

إن نظرية الاستغناء الأمريكي عن إسرائيل لا تُبنى على حادثة أو خطاب عابر، بل تتجذر في التغير العميق الذي طرأ على العقيدة الاستراتيجية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة. فالدعم المطلق الذي استُثمر لعقود في الكيان الإسرائيلي كان يقوم على فرضية مركزية: أن إسرائيل تمثّل خط الدفاع الأول عن مصالح واشنطن في قلب صحراء معادية، وأنها القوة القادرة على الحسم بالنيابة، والردع دون تورط أمريكي مباشر. لكن هذه الفرضية، التي ربما كانت صحيحة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تحوّلت في العقدين الأخيرين إلى عبء لا يطاق. فإسرائيل لم تعد فقط غير قادرة على الحسم، بل باتت تحتاج إلى تدخلات دائمة لحمايتها من الفشل، وتُصرّ على توسيع عدوانها بما يفوق حدود المعقول، دون أدنى اعتبار للمصالح الأمريكية الأوسع، التي تتطلب تهدئة، لا تفجيرًا مستمرًا للجبهات.

أكثر من ذلك، فإن الكلفة الاقتصادية الهائلة التي تتحملها أمريكا لدعم إسرائيل، سواء في شكل مساعدات مباشرة، أو تغطية دبلوماسية، أو خسائر في الرصيد الأخلاقي عالميًا، باتت تتجاوز بأضعاف المنافع الاستراتيجية المتوخاة. وكلما ازداد تغوّل الاحتلال، وكلما توسعت الجرائم ضد المدنيين في غزة ولبنان وسوريا، ازداد الحرج الأمريكي، وتوسّعت الفجوة بين ما تقوله واشنطن عن "قيم الحرية وحقوق الإنسان" وما تدعمه فعليًا في تل أبيب. وهذه الفجوة لم تعد مجرد حرج نظري، بل صارت خطرًا عمليًا على صورة أمريكا ونفوذها الناعم، في ظل صعود الصين كقوة خطاب بديلة، وتزايد نفوذ الحركات المناهضة لإسرائيل في الجامعات والنقابات والمؤسسات الغربية.

في المقابل، تزامن هذا التآكل في جدوى إسرائيل مع صعود نوعي وهادئ لدول الخليج العربي، وخصوصًا السعودية والإمارات وقطر، كلاعبين استراتيجيين يلبّون المصالح الأمريكية دون تكلفة أخلاقية أو عسكرية تُذكر. فهذه الدول، بدفعها مئات المليارات في صفقات السلاح، واحتضانها للقواعد الأمريكية، وتموضعها كقوى مالية استثمارية في الأسواق الأمريكية نفسها، تحوّلت من تابع أمني إلى شريك سيادي في منظومة المصالح الدولية. الخليج، الذي كان يُستخدم كخزان نفط ومال في الماضي، بات اليوم أكثر وعيًا بدوره، وأكثر قدرة على التفاوض على موقعه في المعادلة. وهو، على خلاف إسرائيل، لا يفرض على واشنطن سردية لاهوتية ولا يسعى لإشعال كل الجبهات دفعة واحدة، بل يتحرك بدقة، وبتكتيك محسوب، وبمنطق الدولة لا العقيدة.

وإذا ما وضعنا هذا التحوّل في سياق الحرب القائمة بين إسرائيل وإيران، فإن معالم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تبدو أكثر وضوحًا: واشنطن لا تسعى إلى الانخراط المباشر في هذه الحرب، بل ربما ترى فيها فرصة نادرة لاستنزاف الطرفين، وتقليص هوامش القوة الإسرائيلية، ومنع إيران من التمدد أكثر. وهذا التردد الأمريكي ليس ناتجًا عن ضعف، بل عن عقلانية جيوسياسية جديدة، تعتبر أن الاستنزاف المتبادل في الجبهة الإسرائيلية–الإيرانية هو المدخل الأفضل لإعادة فرض شروط الهيمنة الأمريكية، ليس من خلال القوة الخشنة، بل من خلال إعادة تموضع القوة الاقتصادية والسياسية عبر الحلفاء الأقل ضجيجًا، الأكثر فاعلية: الخليج العربي.

وفي هذا السياق، فإن إسرائيل، التي لطالما تصرفت كحليف لا يُمَسّ، تجد نفسها اليوم أمام احتمالية أن تتحول إلى أداة تخريب فوضوية لم تعد قابلة للاحتواء، وقد يصبح الحل الأمريكي لإنهاء تغوّلها، هو في تركها تُستنزف حتى تتخلى عن أوهام الهيمنة، وتعود مضطرة إلى الخضوع لشروط التوازن، لا إلى التمرد على من يدعمها. وهذا التحول، إن تحقق، لن يكون هزيمة عسكرية بالمعنى التقليدي، بل سيكون هزيمة في العمق الاستراتيجي والعقائدي للمشروع الصهيوني نفسه، الذي بُني على التفوق المطلق، والانتصار الدائم، والحماية الأمريكية غير المشروطة.

أما تركيا، فهي وإن كانت تطمح لوراثة موقع قيادي في الإقليم، إلا أن ترددها، وارتباكها الداخلي، وصراعاتها الجانبية، تجعل منها لاعبًا مُحتملًا أكثر منه فاعلًا حاسمًا. وما لم تنجح في تجاوز أزمتها السياسية، وتقديم نفسها كمشروع متكامل، فلن تتقدم على الخليج، ولن تُنافس إسرائيل، بل ستظل تتأرجح بين الطموح والواقع.

وفي وسط هذا المشهد الكثيف بالتغيرات، تقف سوريا، لا كفاعل بل كأرض مفتوحة للتدخلات، وساحة تُصفّى فوقها الحسابات بين القوى الكبرى. النظام الذي سقط فتح الباب لتشكيلات جديدة، أكثر هشاشة، وأكثر قابلية للاختراق من جميع الأطراف، في وقت لم تتبلور فيه بعد هوية وطنية جامعة، ولا مشروع سياسي نهضوي قادر على احتواء التحديات. وإذا استمرت سوريا بلا مشروع وطني مستقل، عابر للطوائف، ومعادٍ لكل أشكال الوصاية، فإنها ستظل عرضة لأن تكون مجرد منطقة عبور لنفوذ الآخرين، لا نقطة انطلاق لإعادة التوازن.

وهنا، تظهر ضرورة ما هو غائب حتى الآن: مشروع نهضوي سوري، يقرأ هذه التحولات، ويفككها، ويحدد موقع سوريا منها، لا كذيل لقوى كبرى، ولا كرهينة لصراع المحاور، بل كفاعل عاقل، وطني، يمتلك أدواته، ورؤيته، وقراره. مشروع يعيد تعريف الدولة، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد، ويكسر الحلقة الجهنمية بين الاستبداد والفوضى، وبين الوصاية والتشظي. مشروع لا يقوم على رد الفعل، بل على الفهم، والبناء، والتحوّل الجذري. فإن كانت أمريكا تراجع تحالفاتها، والخليج يُعيد بناء تموضعه، وإيران تنزف دون أن تنهار، وإسرائيل تتأرجح على حافة الانكشاف، فإن سوريا، إما أن تتقدّم بمشروعها الوطني، أو تتوارى أكثر خلف ضجيج الآخرين.

شادي عادل الخش

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!