الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٥
Logo
  • حين يعود خطاب الأسد بلا أسد.. الشيخ مقصود والأشرفية بوصفهما ساحة لتحريض مستعار

حين يعود خطاب الأسد بلا أسد.. الشيخ مقصود والأشرفية بوصفهما ساحة لتحريض مستعار
شيار خليل

في لحظةٍ كان يُفترض أن تكون اختبارًا إضافيًا لقدرة السوريين على الخروج من منطق السلاح والاصطفاف، أعادت الاشتباكات التي شهدها حيا الشيخ مقصود والأشرفية في حلب فتح واحدة من أخطر النوافذ في المشهد السوري، نافذة خطاب الكراهية، لا بوصفه انفعالًا عابرًا، بل كأداة جاهزة للاستخدام، تُستدعى كلما اهتزّ ميزان القوة أو اختلطت الوقائع على الأرض

الاشتباكات بين قوات تابعة لوزارة الدفاع السوري وقوات الأساييش لم تبقَ في إطارها الأمني المحدود، بل تحولت بسرعة إلى مادة سياسية وإعلامية مشحونة، جرى فيها القفز فوق تفاصيل الحدث وسياقه، واستبدال الأسئلة المشروعة حول الأسباب والمسؤوليات بخطاب تعبوي قديم، يعرف السوريون ملامحه جيدًا، ويعرفون نتائجه الكارثية أيضًا

الأخطر لم يكن الاشتباك بحد ذاته، بل الطريقة التي جرى فيها نقله من مستوى الخلاف العسكري أو الأمني إلى مستوى التحريض الجمعي، فجأة، لم يعد الحديث عن حيّين مكتظّين بالمدنيين، ولا عن خطر توسّع الاشتباكات على حياة الناس، بل عن المنطقة والهوية والانفصال والولاءات، وكأنّ المدنيين الذين يعيشون في الشيخ مقصود والأشرفية ليسوا سوريين، بل تفصيلًا فائضًا يمكن شطبه لغويًا قبل أن يُستهدف سياسيًا أو معنويًا

عدد غير قليل من الصحفيين والناشطين المعروفين اختاروا العودة إلى قاموس الإدانة الجماعية، فجرى تحميل الأحياء وأهلها مسؤولية ما حدث، واختُزل المشهد في سردية جاهزة عن مشروع كوردي ونزعات انفصالية، دون أي محاولة لفهم التعقيد الحقيقي للمكان، أو الاعتراف بأنّ هذه الأحياء تضم آلاف المدنيين الذين دفعوا، كما غيرهم، أثمانًا باهظة خلال سنوات الحرب، ولم يكونوا يومًا طرفًا في صناعة القرار العسكري أو السياسي

وليس تفصيلًا لغويًا عابرًا أن تعود مصطلحات مثل الانفصال والخروج عن الدولة والمشاريع المشبوهة إلى واجهة التعليق على ما جرى، فهذه اللغة، في جوهرها، لا تختلف كثيرًا عمّا كان يعتمده نظام الأسد لعقود في توصيف كل منطقة أو جماعة تخرج عن سيطرته، حيث كان الاتهام الجاهز دائمًا واحدًا، انفصاليون أو إرهابيون أو أدوات لمشاريع خارجية، والأخطر أن هذا القاموس لم يسقط بسقوط النظام أو تراجعه، بل ترسّخ في الوعي العام خلال سنوات القمع، حتى بات بعض السوريين يستعيرونه تلقائيًا ويعيد إنتاجه دون مساءلة، وكأن النظام، وهو يمهّد الأرض طوال هذه الأعوام، قد نجح في تمرير درسه الأشد خطورة، تحويل التخوين إلى لغة يومية، والسياسة إلى لائحة اتهام، تُستخدم حتى بعد رحيله ضد أي طرف لا يدخل في قالب السيطرة والطاعة

وما يزيد المفارقة قسوة أن هذا التحريض لا يصدر عن إعلاميين في الداخل فقط، بل عن صحفيين وحقوقيين وناشطين سوريين يقيمون في أوروبا، ويعيشون يومياتهم كاملة تحت مظلة القوانين الأوروبية، ويتمتعون بحماية أنظمة قانونية تجرّم خطاب الكراهية والتحريض الجماعي، فيما يمارس بعضهم، في الفضاء السوري، خطابًا نقيضًا لما يلتزم به في حياته اليومية، هذا الانفصام بين ما يُمارَس هناك وما يُحرَّض عليه هنا، لا يكشف فقط ازدواجية أخلاقية، بل يعكس فشلًا عميقًا في نقل أبسط دروس الدولة والقانون إلى الخطاب العام المتعلق بسوريا

هذا النوع من الخطاب لا يكتفي بتشويه الوقائع، بل يُعيد إنتاج الانقسام الأهلي في لحظة بالغة الحساسية، حين يُستخدم الانتماء القومي أو الجغرافي كأداة اتهام، فإننا لا نكون أمام نقد سياسي، بل أمام تحريض يفتح الباب أمام شرعنة العنف الرمزي، وربما المادي، ضد جماعات كاملة، وهو منطق خبرته سوريا طويلًا، وكانت نتائجه دومًا واحدة، مزيد من الدم، ومزيد من الشروخ، ومزيد من استسهال إقصاء الآخر

في هذا السياق، لم يكن مستغربًا أن يمتد الهجوم ليطال وسائل إعلام لمجرد التزامها بالحد الأدنى من المهنية، قناة العربي، الممولة من قطر، وجدت نفسها هدفًا لحملة من إعلاميين سوريين طالبوا بإغلاقها، لا لأنها حرّضت أو شوّهت، بل لأنها نشرت خبر الاشتباكات كما ورد من طرفيه، دون تبنّي رواية واحدة أو الانحياز الخطابي لأي جهة

هذا الموقف يكشف أزمة أعمق من مجرد خلاف حول تغطية خبر، نحن أمام تصور إقصائي للإعلام، يرى أن وظيفة الصحافة ليست نقل الوقائع وتعدد الروايات، بل الاصطفاف الكامل خلف خطاب سياسي أو عاطفي محدد، أي خروج عن هذا الخط يُصنَّف فورًا كخيانة أو استهداف، حتى لو كان في جوهره ممارسة مهنية بديهية

المفارقة أن من يطالبون بإغلاق قناة لأنها نقلت الخبر من الطرفين، هم أنفسهم من يرفعون، في سياقات أخرى، شعارات حرية الإعلام وحق الوصول إلى المعلومة، لكن هذه المبادئ تُستدعى فقط حين تخدم رواية بعينها، وتُنسى فورًا عندما تُربك خطابًا تعبويًا مريحًا

ما جرى في الشيخ مقصود والأشرفية يجب أن يكون مدخلًا لمراجعة عميقة، لا مناسبة جديدة لتصفية الحسابات، مراجعة تبدأ بالاعتراف بأن خطاب الكراهية ليس رأيًا، وأن التحريض ضد المدنيين ليس موقفًا سياسيًا، وأن اللعب على وتر القوميات والهويات في لحظة هشّة كهذه هو مقامرة بمستقبل مجتمع بأكمله

كما أن الدفاع عن المهنية الإعلامية، أيًا كان مصدر الوسيلة أو تمويلها، ليس دفاعًا عن قناة أو دولة، بل دفاع عن حق السوريين في معرفة ما يجري دون فلاتر تحريضية، فحين يُمنع الإعلام من نقل الوقائع كما هي، أو يُجبر على تبنّي رواية واحدة، فإن الخاسر الأول ليس السلطة ولا الفصيل، بل المجتمع نفسه

في النهاية، لا يمكن لسوريا أن تخرج من أزمتها بلغة الاتهام الجماعي، ولا بإعادة تدوير الخوف من الآخر، ما تحتاجه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو خطاب مسؤول يضع المدنيين في قلب الاهتمام، ويعيد السياسة إلى مجالها، والإعلام إلى وظيفته، ويدرك أن كل كلمة تحريضية، مهما بدت عابرة، قد تكون شرارة لا يمكن السيطرة على نارها لاحقًا.

ليفانت: شيار خليل

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!