-
سوريا الجديدة بين التحدي والأمل

إن الدعوة إلى الأمل في بناء سوريا جديدة قائمة على الوحدة الوطنية والتسامح ليست مجرد رؤية طموحة، بل هي ضرورة ملحة تمثل تحدياً كبيراً يتطلب جهوداً ضخمة على مختلف الأصعدة. فإعادة بناء سوريا بعد سنوات من الصراع والعنف والتدمير تحتاج إلى ما هو أكثر من إنهاء العمليات العسكرية؛ فهي تتطلب معالجة أزمات اجتماعية عميقة، وإصلاح المؤسسات المنهارة، وخلق بيئة من الثقة بين مكونات المجتمع السوري التي تأثرت بشكل كبير بالانقسامات العرقية والطائفية.
على مدار العقود الماضية، اعتمد النظام السوري السابق على سياسة فرق تسد، مما أدى إلى زرع الخوف والشك بين مختلف المكونات الاجتماعية، الطائفية والعرقية. طيلة سنوات الحكم القمعي، سعى نظام الأسد وحزب البعث إلى خلق تباينات حادة بين السنة والعلويين والكورد والمسيحيين والدروز، ما جعل أي مشروع لبناء سوريا موحّدة أمراً بالغ التعقيد. هذه الانقسامات العميقة أدت إلى كراهية متزايدة وتنازع دائم بين هذه الفئات، ما يتطلب جهوداً مضاعفة لإعادة بناء النسيج الاجتماعي.
لقد خلفت الحرب السورية ملايين الضحايا بين قتيل وجريح، بالإضافة إلى ملايين اللاجئين والمشردين داخلياً. هؤلاء الأفراد، الذين عايشوا الفظائع والتهجير، غالباً ما يحملون مشاعر العداء والانتقام، مما قد يعرقل أي محاولات للسلام. لذا، فإن إعادة بناء الثقة بين هذه الفئات تحتاج إلى فترة طويلة من المصالحة المجتمعية، وجهود نفسية واجتماعية لمساعدة المجتمع على تجاوز الصدمات، جنباً إلى جنب مع برامج دعم وتأهيل شاملة.
استغل النظام السوري السابق الأقليات كحليف رئيسي، مما جعل بعض الطوائف تشعر أن بقاءها مرتبط ببقاء النظام. بعد سنوات من قمع المعارضة وتشجيع الولاءات الطائفية، سيكون من الضروري العمل على مصالحة حقيقية بين هذه الأطراف المتنازعة. قد يكون من السهل التوصل إلى اتفاقات لوقف العنف، لكن بناء الثقة بين الطوائف المختلفة يتطلب وقتاً طويلاً والتزاماً حقيقياً من جميع الأطراف.
كما تعرّضت المؤسسات الحكومية في سوريا إلى تفشّي الفساد والهشاشة، إذ اعتمد نظام الأسد على شبكة من المحسوبية والفساد، مما أدّى إلى إضعاف المؤسسات الدستورية والتشريعية في البلاد. بعد سنوات من الصراع المدمر، سيكون من الصعب إعادة بناء هذه المؤسسات بشكل فعال ما لم يكن هناك إصلاح جذري يضمن استقلالية القضاء، وتعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد بشكل حقيقي.
الدمار الذي لحق بالبنية التحتية في سوريا كان هائلاً. فقد تعرّضت مدن كبرى مثل حلب ودمشق وحمص لتدمير واسع النطاق، فضلاً عن تدمير العديد من المنشآت الحيوية مثل المستشفيات والمدارس. إعادة بناء هذه المنشآت تحتاج إلى وقت طويل وموارد ضخمة، بالإضافة إلى دعم دولي مالي وتقني. كما أن إعادة تأهيل وتدريب القوى البشرية في هذه القطاعات أمر ضروري لضمان فاعلية المؤسسات الحكومية مستقبلا.
في فترة ما بعد الصراع، سيكون هناك تهديد مستمر من الجماعات المسلحة الصغيرة والعصابات التي قد تهدد الاستقرار في بعض المناطق. إرساء الأمن وضمان السيطرة على جميع الأراضي السورية هو أمر بالغ الأهمية، لكنه يتطلب إقرار نظام أمني شامل ومستقل، بالإضافة إلى تقوية جهاز الشرطة والجيش بشكل يعكس التنوع المجتمعي، بعيداً عن الطائفية التي زرعها النظام السابق.
القضية الأكثر تعقيداً في عملية إعادة البناء هي مسألة العدالة الانتقالية، التي تشمل محاسبة الجناة على الجرائم المرتكبة من جميع الأطراف المشاركة في الصراع. هذه الجرائم تشمل القتل الجماعي، التعذيب، الهجمات الكيميائية، والتهجير القسري. تحقيق العدالة والمصالحة الحقيقية يتطلب إنشاء نظام قضائي مستقل وشفاف قادر على محاكمة القضايا المتعلقة بالانتهاكات بشكل عادل، رغم المقاومة المتوقعة من بعض الأطراف.
العدالة الانتقالية لا تتعلق فقط بمحاكمة الجناة، بل تشمل أيضاً إعادة تأهيل الضحايا الذين عانوا من الاعتقالات التعسفية، التعذيب والتهجير القسري. يجب أن تتضمن استراتيجيات العدالة الانتقالية تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا من خلال برامج لمساعدة الأسر المشردة والأفراد المتضررين من الصراع، بالإضافة إلى توفير تعويضات وإعادة دمجهم في المجتمع.
الاقتصاد السوري تعرّض لانهيار شامل بسبب سنوات الحرب، حيث تراجعت الإنتاجية في جميع القطاعات. إعادة بناء الاقتصاد الوطني تتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية، وإعادة تفعيل الصناعة والزراعة، وتوفير فرص عمل لتخفيف معاناة الشعب السوري. في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، يشكل ذلك تحدياً كبيراً.
عملية إعادة الإعمار ستحتاج إلى تمويل هائل، مما يتطلب دعماً دولياً واسعاً. ومع ذلك، فإن استمرار العقوبات الدولية قد يعطل إمكانية الحصول على التمويل اللازم. علاوة على ذلك، قد تتردد بعض الدول في تقديم الدعم دون ضمانات حقيقية بأن النظام سيستجيب للمطالب الدولية المتعلقة بالحقوق الإنسانية والعدالة الانتقالية.
على الرغم من الدعوات المستمرة لحل سياسي يعكسُ تطلُّعات السوريين نحو الديمقراطية والعدالة، فإن التحدّي الأساسي يكمن في التوصل إلى إطار سياسي شامل يضم جميع الأطراف. نجاح العملية السياسية في بناء سوريا جديدة سيعتمد على قبول جميع الأطراف بالمشاركة في حكم مشترك قائم على توافق سياسي حقيقي.
بعد سنوات من التدخلات الدولية التي حولت الصراع السوري إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، سيكون من الصعب التوصل إلى اتفاق حول عملية إعادة البناء دون توافق بين القوى الكبرى في العالم. تدخل القوى الإقليمية والدولية قد يزيد من تعقيد عملية المصالحة الوطنية، حيث يسعى كل طرف لتحقيق مصالحه الخاصة.
رغم كل هذه التحديات، يبقى الأمل قائماً في بناء سوريا جديدة تقوم على الوحدة الوطنية والتسامح. لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب إصلاحات عميقة على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية. ومن أهم هذه الإصلاحات بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري، معالجة قضايا العدالة الانتقالية، إعادة بناء المؤسسات، والتعامل مع التداعيات النفسية والاجتماعية التي خلفتها سنوات من القمع والصراع.
إن مستقبل سوريا يعتمد على قدرة السوريين أنفسهم على تجاوز الماضي الأليم والعمل معاً لبناء مستقبل مشترك. فالتاريخ يعلمنا أن الشعوب التي تمر بحروب أهلية طويلة يمكنها أن تتعافى إذا توفرت الإرادة السياسية والاجتماعية لتحقيق المصالحة.
إن بناء سوريا الجديدة ليس خياراً، بل هو واجب وطني وإنساني يتطلب تضافر الجهود المحلية والدولية لتحقيق السلام الدائم والازدهار المنشود.
ليفانت: عزالدين ملا
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!