-
سوريا... حين يغدو الانفصال حلاً

لم تكن لدى الأقليات رغبة بالانفصال عن سوريا ولم يكن ذلك مطلباً لها في يوم من الأيام، فتاريخياً رفض المسيحيون بشدة الحماية الفرنسية، وكان العلويون والدروز قد طالبوا في إضراب العام 1936 بتحقيق رغبتهم بالانضمام إلى الجمهورية السورية، وتكريساً لرغبتهم تلك وتأكيداً على ذلك بادروا إلى التنازل عن كافة الامتيازات الفيدرالية التي كانت ممنوحة لهم ويتمتعون بها بغية إلغاء أي نوع من التمايز بينهم وبين إخوانهم السوريين في باقي المناطق ومن باقي المكونات.
لكن ومنذ وقوع أول انقلاب عسكري على يد حسني الزعيم العام 1949 حتى يومنا هذا خضعت سوريا والشعب السوري لسلطات أمر واقع لم تنجز دولة إلا على قياساتها وبالشكل الذي يحقق أطماعها ورغباتها ويرضي داعميها عربياً وإقليمياً ودولياً، ولم توحد شعباً إلا بإخضاع الجميع لكافة أشكال القمع والإقصاء.
وقد كانت لحظة تخلي نظام الأسد عن السلطة بداية كانون الأول العام 2024 الفرصة المثالية التي انتظرتها كافة المكونات كي تعبر عن رغباتها ونوازعها الكامنة بعد عقود من المصادرة والعسف، ما أربك المشهد السياسي السوري وأدخل البلاد في استحقاقات لم تَخْبِرْها من قبل، استحقاقات تمثلت في خلاص تلك المكونات من القبضة الحديدية والانكفاء نحو دوائرها الضيقة التي شعرت بأنها تحقق لها أمانها واستقرارها بعد أن ضاقت ذرعاً بدائرة مركزية كانت تُدْعى زوراً وبهتاناً وطناً، مما أدخل البلاد تالياً في مرحلة إعادة تعريف الهوية، وبات السوريون كشعب وسوريا كدولة يواجهون معاً سلطة أمر واقع جديدة، تتفرد كجماعة في الحكم، وتقصي باقي مكونات الشعب السوري عن المشاركة في مراكز القيادة واتخاذ القرار، لا بل حتى عن مراكز الإدارة في المؤسسات الكبرى والصغرى، سلطة زادت الطين بلة عندما لم تتمكن من التفوق على ذاتها والخروج من جلباب التكفير وشهوة الإلغاء، فسرعان ما كشرت عن أنيابها وأسفرت عن نواياها الإجرامية من خلال ما ارتكبته من مجازر في مناطق ذات سمات أقلوية، الأمر الذي عزز رغبة هذه المكونات في البحث عن أية وسيلة للنجاة من الفناء المرتقب حتى لو كانت تلك الوسيلة انفصالاً.
وعلى استهجان البعض -وربما تخوين- فكرة مطالبة بعض الأقاليم بالانفصال، إلا أن ذلك يجب ألا يمحو من الذاكرة أن طلب الانفصال ليس حدثاً طارئاً أو جديداً بل ثمة سابقات كثيرة وقعت وحققت الغاية المرجوة، ولم يكن ذلك بالطبع من قبيل الترف، لكنه كان حلاً لأزمات مستعصية وحقناً لإراقة مزيد من الدماء، وقد نشأت إثر حالات الانفصال تلك دول جديدة نمت وتطورت وأعادت ترتيب وتطبيع علاقاتها مع الكيانات التي انفصلت عنها، وراحت تمارس خصوصيتها بكل حرية بعد أن كان دون ذلك الفناء في دولة الاتحاد التي أخضعَتْها لإرادة وسطوة المركز.
ولعل أبرز مثال على انفصال دول عن دولة المركز ذلك الذي حصل إبان تفكيك الاتحاد السوفييتي الذي دام اتحاده تسعة وستين عاماً بين عامي 1922 و1991، وكان قد بُنِيَ على أسس حزبية وفكرية وثورية واحدة عابراً كل انتماء ديني وقومي وفكري، باسطاً نفوذه على خمس عشرة دولة ومُخضِعاً لسيطرته كل دول أوروبا الشرقية والعديد من دول آسيا وأفريقيا والعالم العربي، مشكلاً قطباً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لطالما وقف في وجه الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وأوقيانوسيا طيلة مدة الاتحاد، ورغم كل هذا الوضع الشائك والمعقد لم تقع الكارثة جراء الانفصال، بل بتنا نرى دولاً حرة مستقلة ذات سيادة وشعوباً تحيا على النحو الذي يوافق تطلعاتها ويرسخ ثقافاتها، لا بل إن روسيا تخففت من أعبائها ومن التزاماتها وتفرغت لإدارة جغرافيتها ولم تخسر موقعها كدولة عظمى حولت هيمنتها إلى تحالفات وحافظت على مكانتها كقطب موازٍ للولايات المتحدة الأميركية.
إن عمر التجربة السورية كدولة واحدة لم يتجاوز التسعين عاماً لم يتمكن أي نظام حكم خلالها من بلورة مفهوم دولة ولا هوية وطنية، ولم يُعْطَ الشعب السوري يوماً فرصة التعبير عن ذاته وعن إرادته، ولمَّا تزل سوريا وشعبها تحت ذات الظرف، ما جعل مطالبة البعض بالانفصال أمراً منطقياً وحاصلاً تلقائياً لمقدمات بائسة ما كانت لتنتج رؤىً أفضل في ظل أفق مسدود وخانق، أفق الإدارة الطائفية والإقصائية التي دفعت باتجاه ردود فعل طائفية ونزوعٍ نحو الانفصال.
وأغلب الظن أن سوريا استنفدت فرص البقاء موحدة، ويبدو ذلك جلياً في عجز -لا بل فشل- السلطة المؤقتة في إدارة البلاد على كافة المستويات، بالإضافة إلى ردود الفعل التي تبديها الأقليات التي حوربَتْ من هذه السلطة باتجاه نماذج من الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو حتى الانفصال، ولا يجب هنا أن نغفل بالطبع دور بعض الرموز في تلك الأقليات في الدفع باتجاه ذلك، ولا يجب أن نغفل الصراع على سوريا الذي تعكسه حالات السيطرة الدولية على أجزاء كبيرة منها في كافة جهاتها.
لذا فإن تصالحاً مع هذه الحالة المزرية واعترافاً بوجودها، ورغبة في الخروج من حالة مستعصية لن تفضي إلا إلى مزيد من الدماء، يجب أن تكون أولويات لدى السوريين، وأن يدعوا من أجل ذلك إلى مؤتمر للتصارح ووضع كل ما في الصدور فوق الطاولات، والخروج بورقة عمل يتوافق عليها الجميع تعيد تشكيل سوريا من جديد على نحو أقله فيدرالي يؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ البلاد ويحقن الدماء ويوقف الصراع، وإلا فلن تنجو سوريا من تقسيم على نحو حاد وخَطِر.
ليفانت: نزار غالب فليحان
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!