-
كوردستان مهد الأديان وتعددية الهوية الروحية 2/3

إن كوردستان، في قلب الشرق الأوسط، ليست مجرد منطقة متنازع عليها جغرافياً، بل هي قلب نابض بالحضارات، وموئل لتجربة إنسانية فريدة، تعكس كيف يمكن للهوية القومية أن تتسع للغنى الروحي، دون أن تتفتت. هي نموذج مغاير لما ساد من قسر واحتواء وتوحيد قسري تحت راية واحدة، ولذلك، فإن فهم كوردستان يجب أن ينطلق من هذه الفلسفة التعددية، لا من قراءة إيديولوجية تختزلها في مذهب أو دين أو طائفة، كما كانت عليه سوريا في زمن البعث والأسدين، وما هي عليه الأن في ظل هيمنة حكومة الجولاني ومنظمة هيئة تحرير الشام.
ولعل من الأنسب، كما يذهب بعض المؤرخين المعاصرين مثل "مارتن فان بروينسن" (Martin van Bruinessen) في دراسته حول الكورد والدين، أن نفهم الهوية الكوردية من زاوية تعددية عابرة للتصنيفات الدينية الصلبة، وأن نعيد الاعتبار إلى البعد التاريخي للممارسات الروحية الكوردية التي سبقت ظهور الأديان الإبراهيمية، واستمرت متجذّرة رغم حملات الأسلمة والتعريب والتتريك التي استهدفتها لاحقًا.
وكما قالها السيد الرئيس مسعود برزاني "نحن لا نبني دولة قومية كردية، بل نبني كوردستان كأمة لكل غير الكورد أيضاً، لتكون وطناً للجميع"
لقد امتزجت هذه التعددية مع البنية الاجتماعية في كوردستان، لا كمجرد تعايش، بل كتداخل وجودي. لم تكن الأديان تُفرّق بين الناس بقدر ما كانت تلوّن الحياة اليومية بلون فلسفي مختلف. ففي قرى مثل "آميدي" و"عينكاوه" و"شنكال"، ونصيبين، وقامشلو وعامودا والحسكة، كان المسلم والإيزيدي والمسيحي واليهودي جيرانًا، وأحيانًا من العائلة ذاتها، يختلفون في الطقوس، لكنهم يتشابهون في العادات، ويصطفون في الملمات صفًا واحدًا.
المسيحية، بحضورها المبكر، لم تكن طارئة على الجغرافيا، بل جزء من هوية المكان. من تيرداد الكوردي الذي اعتنق المسيحية في القرن الرابع، إلى مار سابا ومنديل المسيح في الرها، امتدت هذه العقيدة الروحية في كوردستان، وشاركت في بناء الذاكرة الثقافية والمجتمعية. ولئن اندثرت بعض مظاهرها بفعل الحروب والغزوات، فإن بقاياها ظلت حيّة في أسماء القرى، والطقوس، واللهجات، والتقاليد.
أما الإسلام، فحين دخل كوردستان، فالشعب الكوردي الذي أعتنق الإسلام، مثل الذي أعتنق المسيحية قبله، لم يُلغِ التعدد، بل تمثل في صيغة روحية منفتحة، عنوانها التصوف. لقد تبنّى الكورد الإسلام على طريقتهم، فأنشأوا نسقًا صوفيًا خاصًا، اختلطت فيه الميتافيزيقا بالشعر، والزهد بالسياسة، كما في المدرسة النقشبندية القادرية. وكان الحلاج وجلال الدين الرومي وابن الفارض رموزًا لهذه الرؤية المتسامحة، التي رأت أن الإيمان ليس في الشعائر الظاهرة فقط، بل في حضور الله في الوجود كله. ولهذا، لم يعرف تاريخ كوردستان مجازر دينية داخلية، باستثناء ما فرض عليه قسرا من القوة الإمبراطورية التي كانت تهيمن على كوردستان، بل حافظ الكورد على وحدة الشعب رغم اختلاف الأديان، وهي ميزة نادرة في منطقة تعج بالصراعات الطائفية.
وما من دليل أبلغ على ذلك من الحضور المستمر للديانات غير الإبراهيمية، كالإيزيدية، التي صمدت رغم أكثر من 74 حملة إبادة دموية، والكاكائية التي ما تزال تتحدى وصم الجهلاء، والزرادشتية التي تعود اليوم كإرادة هوية، لا كنقيض لدين، بل كصيغة للانتماء إلى روح كوردستان الأصلية.
لكن ما كان يمكن أن يُشكّل نموذجًا عالميًا في التعايش، تحوّل بفعل التدخلات الخارجية إلى أداة للتفتيت. لقد أدركت الأنظمة المحيطة، من الفارسية الصفوية، إلى العثمانية التركية، فالعربية القومية لاحقًا، أن هذا التعدد الروحي الكوردي، بدل أن يكون عامل وحدة، يمكن استثماره لتفتيت الجسم الكوردي من الداخل. هكذا، بدأ مشروع "بناء الشرخ" لا انطلاقًا من الاختلاف الطبيعي، بل من شيطنته وتحويله إلى تناقض قاتل، وهو مما يجري حاليا، وبكراهية مقيته، ضد المجتمع الكوردستاني وإدارتي جنوب وغربي كوردستان
.
لقد مارست الأنظمة الفارسية، والتركية، والعربية، سياسات متشابهة رغم اختلاف هوياتها، تفتيت المجتمع الكوردي على أسس دينية، وتحويل التعدد إلى صراع. في إيران، جُعل من الكورد السنة "عنصرًا غريبًا" في دولة شيعية، وحُرِموا من حقهم في التعبير الديني والسياسي معًا. في تركيا، جرى توظيف الانتماء السني للكورد كأداة لإلحاقهم بالهوية التركية، مقابل قمع المكونات الإيزيدية والعلوية. أما في العالم العربي، فقد اعتُبرت الإيزيدية والمسيحية والزرادشتية "بدعًا خارجة عن الملّة"، بينما تم تصوير الكورد الشيعة في الجنوب العراقي كتهديد للهوية القومية العربية.
ولم تكتف تلك الأنظمة بتقسيم الكورد وفق الدين، بل ضخّت ذلك الصراع داخل الحركات السياسية الكوردية نفسها، فبدأت الانشقاقات لا على أساس الرؤية القومية، بل وفق التماهي الديني، أو التبعية المذهبية لهذا الطرف أو ذاك، وهكذا، جرى ضرب المشروع القومي الكوردي من داخله، عبر إدخال "فيروس المذهب" في قلب الحركات التحررية، حتى باتت تتقاتل فصائل كوردية تنتمي للدين ذاته، وتتبنّى الشعارات ذاتها، فقط لأن خلفها دعمًا إقليميًا سنيًا أو شيعيًا أو علمانيًا.
يتبع...
د. محمود عباس
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!