-
منبر الأموي يكرّر خطيئة الكوفة الجولاني يخطب بلسان الحجاج
لم تكن الجمل التي قالها أحمد الشرع في الجامع الأموي «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فوالله لن يقف في وجهنا أي أحد مهما كبر أو عظُم…»والتي اقتبس مقدمتها من خطبة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) عند تولّيه الخلافة في (11 هـ) بعد بيعة السقيفة: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»، مقدَّمة بروحها الراشدية التي قامت على تقييد السلطة وجعل الطاعة عقدًا اجتماعيًا مشروطًا قابلًا للنقض؛ بل قُدِّمت بروحٍ أبو محمد الجولاني وهي أقرب إلى خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي، حين صعد منبر الكوفة عام 75 هـ، أي بعد أربعة وستين عامًا من تلك اللحظة الراشدية، فلم يجعل الطاعة التزامًا أخلاقيًا، بل قدرًا مفروضًا بالقوة، وحوّل الاعتراض إلى معصية، والدولة إلى مشيئة يفسّرها هو وحده.
وهكذا بدا اقتباس الشرع، لا استدعاءً لعدالة الراشدين، بل إحياءً لروح الحجاج، طاعة تُطلَب بلا شروط، وسلطة تُقدَّم كقضاءٍ لا يُناقش.
والمفارقة أن خطبة أبي بكر الصديق (رض) كانت وعدًا بالمسؤولية، بينما كانت خطبة الحجاج تهديدًا بالقهر. أما خطبة الجولاني وليس الشرع فقد وقعت بينهما في ظاهرها، لكنها في جوهرها مالت إلى الحجاج، لأن المنبر الديني ليس منصة سياسية بطبيعته، ولأن استخدامه بوصفه موقعًا لرئيس حكومة انتقالية يشي بأن الحكم يتكئ على الشرعية الغيبية لا الشرعية الشعبية، وعلى الطاعة المفروضة لا الطاعة المتفاوض عليها. السياق هو الذي يحدد المعنى، والسياق الذي تحدث فيه الشرع لم يكن سياق شورى، بل سياق سلطة تحاول إعادة تشكيل خطابها دون تغيير جوهرها.
ومن هنا يدخل المشروع كله في فضاء الجبرية؛ ذلك الفقه الذي استخدمه بنو أمية لتسويغ سلطانهم، حين قالوا إن الحاكم قدر الله على الخلق، وإن الاعتراض عليه اعتراض على القضاء الإلهي. واليوم يستنسخ هذا المنطق في هيئة تحرير الشام والمنظمات المتشددة المحيطة بها؛ فالجولاني، مهما ارتدى عباءة السياسي، يبقى محاطًا بخطاب يرى الأمير مُطاعًا لأنه أمير، لا لأنه عادل، وأن شرعيته تأتي من النصوص لا من صناديق الاقتراع، ومن الإمرة الدينية لا من مؤسسات الدولة.
الدولة في هذا التصور لا تُنتج مواطنًا، بل تابعًا، ولا تُنتج قانونًا، بل فتوى، ولا تُنتج عقدًا مدنيًا، بل طاعةً عقائدية.
أما محاولة إلحاق الجولاني بنسب بني أمية أو تصويره امتدادًا لهم فهي سذاجة سياسية؛ فبين السوريين المستعربين المعاصرين وبني أمية التاريخيين هوةٌ في الثقافة والجذر والعقيدة، بُناةُ دمشق الأمويّة كانوا أصحاب مشروع إمبراطوري سياسي، أما الجهاديون اليوم فمشروعهم قائم على التكفير والإقصاء واحتكار النجاة، لا على بناء الدولة.
وتستقيم بهذا العودة إلى خطاب الحجاج بن يوسف الثقفي يوم خاطب أهل الكوفة بقوله: «إني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها…» فقد كان تهديدًا صريحًا بالدم، وفرضًا للعقوبة باسم القدر، وإغلاقًا لباب النقاش. واليوم، وإن كان أحمد الشرع نفسه أكثر تهذيبًا واتزانًا، إلا أنّ الفضاء المحيط به، قنوات، صفحات، منابر، دعاة، يعيد إنتاج الخطاب ذاته، بألفاظ لا تقل خشونة وجوهرًا عن تهديدات الحجاج. تهديدات موجّهة ضد الكورد، وضد الدروز، وضد العلويين، وضد المسيحيين، وضد كل من يقع خارج إطار الهوية السنية الضيقة التي تُقدّم اليوم بوصفها معيار الانتماء. وهي ليست تهديدات فردية أو خارجة عن السيطرة، بل لغة تتكرر داخل الفضاء السياسي الدائر حول الحكومة الانتقالية، دون أي إدانة أو تصحيح أو محاولة لوضع حدٍّ لها، وكأنها التعبير غير المعلن عن منطق الإمارة الذي لم يغادر أبو محمد الجولاني يومًا مهما تغيّرت خطاباته.
وحين يعتلي الحاكم منبر الجامع ليخطب بدل إمام المسجد، فإن الرسالة تنطق دون حاجة إلى شرح، الشرعية هنا ليست شعبية وإنما دينية، والحاكم ليس موظفًا عند الناس، بل مؤتمنًا عليهم من السماء، والمعارضة ليست حقًا دستوريًا، بل خروجًا على الطاعة.
المنبر، بمجرد أن يتحول إلى منصة حكم، يلغي المسافة بين قداسة العقيدة ومسؤولية السلطة، فيختفي المواطن ويظهر المريد، ويختفي الدستور ويظهر التأويل، ويختفي القانون وتظهر الفتوى. وهكذا يصبح الحاكم «ظلًا لله في الأرض» من جديد، ويعود المجتمع إلى معادلات الطاعة التي تسبق النقد، والامتثال الذي يسبق النقاش، والخضوع الذي يسبق الحق.
ومن العدل القول إن أحمد الشرع، على المستوى الشخصي، أفضل بأضعاف من بشار الأسد؛ فهو أقل دمًا، وأكثر تهذيبًا، وأقرب إلى المنطق السياسي. ولكن المشكلة ليست في شخصه، بل في المشروع الذي يقف فوق رأسه. فالإيديولوجيا التي ترعاه قادرة على ابتلاع أي شخصية معتدلة وتحويلها إلى أداة جديدة للاستبداد، لأن العقيدة، حين تتقدّم على الإنسان، تصنع طغيانًا لا يقلّ خطرًا عن طغيان الدولة الأمنية. وبذلك تصبح المقارنة بين النظامين فضيحة لا تحليلًا: نظام قتل باسم الدولة، ومشروع قد يقتل باسم العقيدة، والضحايا في الحالتين مجرّد تفصيلٍ في رواية أكبر منهم.
والصورة، حين نضعها كاملة، تكشف أن ما يجمع منبر الحجاج في الكوفة ومنبر الجولاني في الجامع الأموي ليس الزمن، بل الفكرة ذاتها، فكرة سلطة تُكتب بالفتوى لا بالدستور، وتُثبَّت بالمنبر لا بالبرلمان، وتُقدَّم بوصفها قدرًا لا خيارًا. لغة تتغيّر، وسلطة لا تتغيّر. عمامة تتبدل، وجبرية تبقى. حاكم يصعد محرابًا، وشعب يُدعى للطاعة. وبين هذين المنبرين، في المسافة التي تفصل أربعة عشر قرنًا، يضيع الوطن مرة أخرى.
د. محمود عباس
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

