-
أرض بلا ظل: تفاح القلمون وزيتون إدلب ضحايا قطع الأشجار وبيعها حطباً
-
من خزان زراعي وبيئي لسوريا إلى أراضٍ جرداء بفعل القطع الممنهج والنهب العسكري.
منيرة بالوش - أميمة زيدان
في سهل رنكوس بالقلمون بريف دمشق، يقف المزارع أبو محمد خالد (56 عاماً) على أطلال مزرعته التي لم يبقَ منها سوى حجارة متناثرة وجذوع يابسة، بعدما كانت تضم مئات الأشجار المثمرة التي وفّرت لعائلته حياة كريمة لعقود.
أبو محمد كان يمتلك أرضاً بمساحة 25 دونماً، مزروعة بـ 700 شجرة من التفاح والكرز والإجاص والمشمش والتوت، وإلى جانبها صفان طويلان من أشجار الحور، لكن هذه الثروة لم تصمد أمام الحرب، إذ قُطعت بالكامل على يد ضباط وعناصر من قوات نظام الأسد المتمركزين في نقاط عسكرية ببلدة رنكوس، بلغ عددها نحو عشر نقاط، كان يتم حول كل واحدة منها تجريف ما يقارب خمسين دونماً من الأشجار.
لم تتوقف خسائر أبو محمد عند الأرض، فقد سُرق له موتور مياه ضخم مع ثلاث غطاسات، وردم البئر الذي كان يروي منه مزرعته. أما منزله المؤلف من خمس غرف، فكان مصيره التفجير بعد سرقة محتوياته، إلى جانب تفجير منزلين آخرين يعودان لأبناء عمومته الملاصقين لأرضه.
يستعيد المزارع مشهد عودته عام 2016 بعد نزوح قصير، ليجد أرضه خاوية، ويشاهد بأم عينه ضابطاً وثلاثة جنود يقطعون الأشجار أمامه. يقول بحسرة: "ما قدرت أحكي كلمة، كان مسلح هو وثلاثة عساكر (..) كلمة الحق عندهم ثمنها رصاصة".
قبل الحرب، كانت مزرعته تدرّ ما يقارب ثلاثة آلاف و500 دولار سنوياً، تكفي لإعالة أسرته بكرامة. أما اليوم، فيقدّر خسائره بأكثر من 100 ألف دولار بين أرض وبيت ومعدات زراعية، مؤكداً أن إعادة تأهيل المزرعة تحتاج إلى ست سنوات على الأقل من العمل الشاق حتى تعود لتثمر من جديد.

ويضيف بمرارة: "قتلوا فينا كل شيء، قتلوا شجرنا ومياهنا وبيوتنا .. الله ينتقم منهم".
كارثة شملت الجميع
قصة أبو محمد ليست سوى انعكاس لمأساة عاشها معظم أهالي رنكوس؛ فقد خسر شقيقه أرضاً بمساحة 27 دونماً في منطقة أرنة بعد أن أقيم فيها حاجز عسكري منذ عام 2014، منع العائلة من دخولها والاعتناء بأشجارها حتى يبست بالكامل، قبل أن يقطعها العناصر المتمركزون هناك لتضاف خسارة جديدة إلى سجل العائلة.
ولم تقتصر الكارثة على عائلة أبو محمد وحدها؛ بل امتدت لتشمل سهل رنكوس كله، خاصة منطقتي القباضة وسهل رنكوس، الأكثر تضرراً؛ جراء عمليات القطع الجائر التي حولت البساتين الخضراء إلى أراضٍ قاحلة.
تظهر صور الأقمار الصناعية الفرق الواضح في الأراضي الزراعية بين عام 2012 -أي قبل سيطرة النظام على المنطقة- وما تلاها، حتى سقوطه في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024.
صور الأقمار الصناعية
خلال هذه الفترة، مُنع المزارعون لثلاثة أعوام متتالية من دخول أراضيهم، في الفترة بين عامي 2014 و2017 سمح لهم بزيارة أرضهم من الساعة السادسة صباحاً حتى الساعة السادسة مساءً من دون الإقامة الدائمة بمنازلهم، ما أدى إلى تيبس الأشجار المروية، وزيادة الضرر اللاحق بالحقول.
مع استمرار السيطرة العسكرية، لم يعد الأهالي يواجهون فقدان الأشجار فحسب، بل خسروا أيضًا مصادر المياه. فقد جرى ردم مئات الآبار بعد سرقة المضخات والأنابيب، ما أدى إلى انقطاع المياه الجوفية التي كانت شريان الحياة للزراعة، حسب شهادة الأهالي الذين قابلناهم.
وباتت الأراضي الخضراء مساحات جافة يصعب استصلاحها. أما مياه الشرب، فهي أزمة أخرى تثقل كاهل السكان، إذ لم يعد الماء يصل إلى المنازل بانتظام، ما أجبر الأهالي على شراء المياه من الصهاريج بأسعار باهظة، في ظل غياب أي تدخل فعّال من الجهات المسؤولة.
وصنف أطلس المخاطر المائية منطقة رنكوس بـ "المرتفعة للغاية"، في مؤشر ندرة المياة.
صورة الأطلس
القلمون.. خزان التفاح السوري الذي جفّ
تضم منطقة القلمون عشرات القرى والبلدات الزراعية؛ مثل رنكوس، وحوش عرب، وتلفيتا، وعين التينة، والجبة، وحلبون، وعسال الورد، وصيدنايا، ومعلولا، ويبرود، والنبك، ودير عطية، وهي بلدات اشتهرت تاريخياً بخصوبة أراضيها وتنوع أشجارها المثمرة.
وكانت القلمون تُعرف قبل الحرب كإحدى أهم مناطق سوريا في إنتاج التفاح والكرز والمشمش والإجاص.
وفق إحصاءات وزارة الزراعة لعام 2010، بلغ عدد أشجار التفاح المثمرة في سوريا نحو 15 مليون شجرة على مساحة تقارب 49 ألف هكتار، كان للقلمون منها الحصة الأكبر، إذ أسهمت بما يتراوح بين 20 و32% من الإنتاج الكلي للتفاح، وفق تقرير نشره موقع عنب بلدي عن دراسة للمركز الوطني للسياسات الزراعية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، عام 2011.
وعام 2020، سجّل إنتاج التفاح في سوريا نحو 267 ألف طن، تركز معظمها في حمص وريف دمشق، في حين كانت القلمون قبل عام 2014 تنتج بمفردها أكثر من 100 ألف طن سنوياً، ما جعلها ركيزة أساسية في الاقتصاد الزراعي المحلي.
لكن هذا المشهد تبدّد مع الحرب؛ فقد تحولت البساتين إلى ساحات مواجهة عسكرية، وجرى تجريف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، فيما تعرّضت الأشجار لقطعٍ جائر ممنهج على يد قوات النظام.
وفق قاعدة بيانات موسوعة المصدر السوري، تراوح الإنتاج الوطني من التفاح بين عامي 2017 و2022 بين 267 ألف و476 ألف طن سنوياً، مع تقلبات واضحة بسبب الظروف المناخية والسياسية.
رغم الحرب والانهيار الاقتصادي، بقيت سوريا حاضرة في الأسواق الخارجية، إذ صدرت عام 2023 نحو 53,947 طناً من التفاح بقيمة تقارب 16.6 مليون دولار.
ووفق تصنيف منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، حلّت سوريا في المرتبة 37 عالمياً عام 2021، وتقدمت إلى 34 عالمياً عام 2022، في حين جاءت رابعاً عربياً بعد مصر والمغرب والجزائر، في إنتاج التفاح.
أما الكرز، فيحتل فيه ريف دمشق موقعاً متقدّماً أيضاً، إذ يستحوذ على نحو 70% من إجمالي المساحة المزروعة وعدد الأشجار، وينتج نحو 55% من المحصول الوطني، تليه محافظة إدلب بنسبة 27%.
وقد سجّلت الإحصاءات الرسمية أن الإنتاج السنوي من الكرز تراوح بين 42 ألف و71 ألف طن بين عامي 2017 و2022، على مساحة إجمالية تبلغ 20,963 هكتاراً تضم أكثر من ستة ملايين شجرة مثمرة.
ورغم الدمار الواسع الذي لحق بالزراعة في القلمون، بقيت صادرات الكرز قائمة، إذ صدّرت سوريا عام 2023 نحو 12,321 طناً بقيمة تبلغ نحو خمسة ملايين دولار.
لكن خلف هذه الأرقام تبدو المفارقة واضحة: الإنتاجية الوطنية تتأرجح بين الصعود والهبوط، في حين تتراجع بلدات القلمون بعد أن كانت من أكبر مناطق الإنتاج، حيث خسر الأهالي الجزء الأكبر من بساتينهم بفعل القطع الممنهج للأشجار، لتختفي آلاف الأطنان من السوق المحلية، تاركة وراءها خسائر فادحة لا تعكسها الجداول الرسمية وحدها.
خسارة زراعية وبيئية
حصل فريق التحقيق على إحصائيات من وزارة الزراعة توضح الضرر الحاصل في رنكوس، حيث بلغ عدد الفلاحين الموثقين الحاصلين على رخص قلع 224 فلاحاً، بسبب تيبس الأشجار، كما قام عدد آخر بقلع أشجارهم المتضررة من دون الرجوع إلى دائرة زراعة رنكوس آنذاك.
وأكدت دائرة الزراعة في منطقة التل بريف دمشق أن عدد الأشجار المتضررة في رنكوس بلغ نحو 60 ألف شجرة من أنواع مختلفة. وأشارت المديرية أن هذه البيانات -إلى لحظة إعداد التقرير- تقريبية، وفق المعلومات المتوفرة لديهم؛ لأنه لم تطلب الجهات المختصة إجراء إحصاء للأضرار الحاصلة في سهل رنكوس بشكل دقيق.
وقدرت شعبة زراعة رنكوس نسبة الأضرار الحاصلة على القطاع الزراعي في البلدة ما بين 65 و75 %؛ فالأهالي لم يخسروا فقط مصدر رزقهم، بل فقدت المنطقة قسماً من غطائها النباتي الذي كان يحمي من التصحر ويساعد على توازن المناخ المحلي، كنوع من انتقام نظام الأسد من أهالي البلدة، بدءاً من محاصرة البلدة ومنع الفلاحين من الوصول إلى أراضيهم ، وتخريب ممنهج للأراضي الزراعية من خلال قطع الأشجار، وردم الآبار،
وسرقة تجهيزات الري من غطاسات ومولدات، وتخريب البنى التحتية، إضافة إلى هدم المداجن وسرقة ممتلكاتها.
عبد الله محمود ( 41 عاماً) من رنكوس، عاد بعد تهجيره ليجد أرضه وقد تحولت إلى صحراء جرداء. يقول: "لا تفاح هذا الموسم.. كنا ننتظر القطاف لشراء مازوت التدفئة وسداد الديون، اليوم لم يبقَ سوى الخسارة".
أما خالد بالوش، مزارع ستيني بقي في البلدة تحت حكم النظام، يروي أنه شاهد عناصر الفرقة الثالثة وهم يقطعون أشجار مزرعته ويبيعونها حطباً. يقول: "الخوف من الاعتقال كان يمنعنا حتى من الاعتراض.. رأينا تعب السنين يُسلب أمام أعيننا".
يروي شاهد العيان عماد من رنكوس كيف قطع الجنود الأشجار وحملوها في شاحنات لبيعها حطباً بأسعار وصلت إلى 150 دولاراً للطن، مضيفاً : "كان الأهالي يشترون حطب بساتينهم الخاصة من السوق، مجبرين على ذلك تحت ضغط الحاجة".
فرضت الحواجز العسكرية أيضاً إتاوات ضخمة على كل شاحنة محملة بالحطب، وفق شهادة الفلاحين الذين قابلناهم، وصلت إلى نصف مليون ليرة سورية. هكذا وجد المزارعون أنفسهم بين فقدان أراضيهم، وشراء ما قُطع منها بأسعار باهظة.
تضاعفت الأزمة مع مرور السنوات، فبينما تراوحت أسعار الحطب في السابق بين 150 و250 دولاراً للطن، تراوح سعره العام الماضي مابين أربعة ملايين ليرة سورية إلى ستة ملايين (ما بين 350 و500 دولاراً)، فيما تحتاج العائلة الواحدة إلى طن ونصف أو طنين على الأقل لعبور الشتاء القاسي. أما المازوت، فقد بلغ سعر اللتر منه في السوق السوداء بين 15 و20 ألف ليرة سورية (أكثر من دولار ونصف)، وهو ما جعل الاعتماد عليه وسيلة بديلة للتدفئة باهظ الكلفة.
تؤكد مديرية الزراعة في ريف دمشق تضرر آلاف الأشجار بفعل التحطيب والقطع الممنهج، وكذلك تيبس الأشجار المرورية؛ بسبب عدم سقايتها والاهتمام بها بأوامر مباشرة من ضباط النظام، وعليه فقد وصلت للمديرية 224 رخصة قلع خاصة بأشجار الأهالي المتيبسة، ما يشير إلى تعرض الحقول لخسائر كبيرة.
وفقاً لإحصاءات وزارة الزراعة التي حصلنا عليها، بلغ عدد الأشجار في بلدة رنكوس نحو 38,422 شجرة، موزعةً على عدة أصناف. يتصدر التفاح القائمة بعدد 23,216 شجرة تمتد على مساحة تقارب 928.64 دونماً، يليه الكرز بعدد 7,890 شجرة مزروعة على 263 دونماً، ثم المشمش بعدد 4,774 شجرة تغطي مساحة تقارب 159.1 دونماً، والإجاص بعدد 2,245 شجرة تمتد على 89.8 دونماً. أما اللوز فيبلغ عدده 193 شجرة على مساحة 7.72 دونم، في حين لا يتجاوز عدد أشجار الدراق 94 شجرة مزروعة على 3.76 دونم، والخوخ تسع أشجار فقط تمتد على 0.36 دونم. وبهذا، تبلغ المساحة الإجمالية المزروعة بالأشجار المثمرة في البلدة نحو 1,452 دونماً.
تشير المحامية نور عويس إلى أن قانون الحراج رقم 6 لعام 2018 يفرض عقوبات على من يقطع الأشجار تتراوح بين السجن والغرامة، لكن الواقع الميداني في القلمون كشف غياب أي تطبيق للقانون، مع تحوّل القطع إلى سياسة ممنهجة تجري تحت رعاية قوات النظام.
اليوم، يقف سكان القلمون أمام واقع مأساوي: أرضهم التي كانت خضراء لم تعد تنتج إلا الجفاف، وخسارتهم الزراعية تحولت إلى كارثة بيئية واقتصادية تهدد حاضرهم ومستقبلهم.
أشجار الزيتون الضائعة
لا يختلف الحال عند أبو عصام، المزارع الستيني المنحدر من بلدة معرتحرمة بريف إدلب الجنوبي. يجلس أبو عصام متكئاً على جدار منزله المتصدع، يسرح بعيداً قبل أن يقطع صمته تنهيدة عميقة: "من أصل 800 شجرة زيتون وتين لم يبقَ لي إلا 20 شجرة، كنا نجني منها أربعة أطنان من زيت الزيتون وطنين من التين المجفف كل موسم… كل ذلك تبخر خلال أقل من ست سنوات".
قصة أبو عصام ليست استثناءً، عشرات العائلات في جنوبي إدلب خسرت بساتينها الممتدة على مدى أجيال، بعدما تحولت الأراضي الزراعية إلى مسرح للقطع والحرق والتجريف، في واحدة من أوسع عمليات تدمير ممنهجة طاولت الأشجار المثمرة التي تشكل العمود الفقري لاقتصاد المنطقة وثقافتها الزراعية.
نزح الرجل مع أهالي بلدته قسراً عام 2019 بعد حملة عسكرية للنظام على ريف إدلب وسيطرته عليها، ليعود بعد سقوط النظام إلى قريته؛ فلا يجد سوى أطلال منازل منزوعة الحديد والأسقف وأراضٍ خاوية من الزيتون والتين.
وقع الصدمة لم يقتصر على خسائر مادية فادحة، بل تسلل إلى نفوس المزارعين، إذ أصيب أبو عصام بمرض مزمن في القلب، بعد أن تحطمت آماله بالعودة إلى أرضه والعمل فيها.
كما لم ينسَ جاره أبو محمد 45 عاماً من قرية صهيان جنوبي معرة النعمان، وجوه الشبان الذين اقتلعوا أشجار الفستق الحلبي من أرضه، وهدموا منزله الكبير، ونزعوا منه كل ما يمكن نزعه من حديد وأبواب وشبابيك وبلاط حتى هذا اليوم ولكن "من دون جدوى"، رغم أن لديه أوراقاً ثبوتية لأسماء عصابات هدم المنازل وقطع الأشجار في ريف إدلب.
عاد الرجل إلى قريته صهيان بعد عام من دخول النظام إليها بعد توغل قواته إلى المنطقة، ليتفقد منزله وأرضه.
يقول: "بنهاية عام 2022، عدت مرة أخرى برفقة والدي لأتفقد منزلي بعد أن أصبحت مدينة خان شيخون، وبعض القرى المحيطة بها منطقة مدنية يحق للمدنيين الوصول إليها؛ فلم أجد أشجار في مزرعتي. أيضاً حقول عمي اقتلعت بالكامل. خسرنا نحو 300 شجرة زيتون عمرها بين 40 و50 عاماً، وقد وجدت بيتي منهوباً بأكمله".
يقول أبو محمد عن وقائع قطع الأشجار في أرضه: "رأيتهم بعيني وهم يقطعون الأشجار بمنشارات الحطب، اكتفيت بتصويرهم". بالنهاية علمت أنهم يتبعون للمخابرات الجوية الفرقة 25 بقيادة سهيل الحسن، أحد أشهر شخصيات نظام الأسد.
تعد محاصيل الزيتون والتين والفستق الحلبي من أهم المحاصيل الزراعية التي يعتمد عليها أهالي المنطقة بشكل رئيسي، إذ يتميز زيت الزيتون بجودته العالية ومذاقه، ما يجعله يتفوق على أنواع الزيوت في الدول والمناطق الأخرى.
تظهر تقنية الأقمار الصناعية بالصور انحساراً ملحوظاً للغطاء النباتي في الأراضي الزراعية في ريف إدلب الجنوبي، عقب سيطرة نظام الأسد عليها بين عامي 2019 و2024.
صور الأقمار الصناعية
خلال هذه المدة امتهن عناصر النظام السلب والنهب فيها، وتخريب البنى التحتية، وسحب الحديد من أسقف منازل المدنيين عمداً. ولم يكتفوا بذلك، بل واصلوا تحطيب الأشجار وقلعها وحرقها، بحسب المشاهدات الميدانية والمزارعين الذين عادوا تدريجياً إلى أراضيهم، بعد معركة ردع العدوان في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024.
تشير بيانات وزارة الزراعة السورية لعام 2017–2018 إلى أن محافظة إدلب كانت تضم قبل الحرب واحدة من أكبر التجمعات الزراعية في سوريا، إذ بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالزيتون نحو 128 ألف هكتار تضم أكثر من 13 مليون شجرة، بإنتاج سنوي يصل إلى 75 ألف طن.
كما عُرفت المنطقة بإنتاج التين على مساحة تقارب 3,800 هكتار تضم ما يقارب 882 ألف شجرة بقدرة إنتاجية سنوية تصل إلى 17,500 طن، إضافة إلى الفستق الحلبي الذي يشغل مساحة تقارب 10,500 هكتار (13% من إجمالي إنتاج سوريا)، ويضم نحم 1.6 مليون شجرة تنتج 16,500 طن سنوياً.
لكن هذه الثروة الزراعية تعرضت لتدمير واسع، فبحسب مديرية زراعة إدلب، جرى قطع ما بين 80 و90% من أشجار الزيتون في بلدات كفرنبل، ومعرتحرمة، وبسقلا، وجبالا وحاس وغيرها، فيما تركت بساتين التين فريسةً للإهمال والأمراض، وتيبست أجزاء كبيرة منها. أما أشجار الفستق الحلبي فقد طاولتها الحرائق والاقتلاع في عدة بلدات، خاصة في معرة النعمان ومحيطها.
وفي منطقة كفرنبل وحدها، التي تبلغ مساحتها الإجمالية نحو 22,900 هكتار، كانت الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة قبل الحملة الأخيرة تصل إلى 13 ألف هكتار، معظمها من الزيتون إلى جانب التين والكرمة والفستق. غير أن الحملة العسكرية وما رافقها من عمليات اقتلاع، وقطع ممنهج حولت مساحات واسعة إلى ما يشبه "الأرض السليخ" الخالية من الزراعة.
تعد سوريا سابع أكبر منتج لزيت الزيتون في العالم، إذ تشير الإحصائيات إلى وجود 108 ملايين شجرة زيتون، ويبلغ متوسط الإنتاج السنوي ما يقارب مليون طن من ثمار الزيتون وينتج عن استخلاصها 175 ألف طن من زيت الزيتون سنوياً، وفق إحصائيات المجلس الدولي للزيتون بمدريد لعام 2015.
وتشير الإحصائية نفسها إلى أن هناك 38 مليون شجرة في محافظتي إدلب وحلب -ما يمثل 35.2% من عدد الأشجار الموجود في سوريا- أنتجت 500 ألف طن من ثمار الزيتون؛ أي نحو 50% من كمية الإنتاج على مستوى القطر، و90 ألف طن من زيت الزيتون، ما يشكل 51.4% من كمية الإنتاج على مستوى القطر.
يُعدّ الزيتون أحد أهم المحاصيل البعلية في سوريا، إذ تحتل البلاد المرتبة الرابعة عربياً والسابعة عالمياً في إنتاجه. وتقدَّر المساحات المزروعة بنحو 650 ألف هكتار تضم أكثر من 90 مليون شجرة؛ منها 72 مليون مثمرة، بمتوسط إنتاج سنوي يصل إلى 1.2 مليون طن من الثمار، ما ينتج عنه نحو 150 ألف طن من زيت الزيتون و300 ألف طن من زيتون المائدة، بحسب قاعدة بيانات موسوعة المصدر السوري.
وتستحوذ محافظتا إدلب وحلب وحدهما على نصف المساحات المزروعة والإنتاج، فيما تأتي اللاذقية وطرطوس بنسبة تقارب 20%. وسجّلت حلب أعلى عدد من أشجار الزيتون بنحو 23 مليون شجرة.
تظهر بيانات الإنتاج -بحسب قاعدة بيانات موسوعة المصدر السوري- تفاوتاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، إذ بلغ المحصول نحو 665 ألف طن عام 2018، وارتفع إلى 884 ألف طن في 2019، قبل أن يتراجع إلى 566 ألف طن في 2021، ثم يسجل قفزة جديدة إلى 991 ألف طن في 2022.
أما إدلب وحدها فتضم قرابة 13 مليون شجرة زيتون على مساحة تقارب 128 ألف هكتار، بإنتاج سنوي يقدّر بـ 75 ألف طن، لتبقى من أهم مناطق زراعة الزيتون في البلاد. ورغم ذلك، لم يتجاوز حجم الصادرات السورية من الزيتون سوى 65 طناً في 2021، ارتفع إلى 312 طناً في 2022، قبل أن يتراجع مجدداً إلى 102 طن في 2023، وهو ما يعكس الفجوة بين حجم الإنتاج الكبير وضعف الحضور في الأسواق العالمية.
الجفاف يرهق المزارعين
يحاول المزارعون في ريف إدلب تعويض الخسارات اللي لحقت بمزارعهم خلال سنوات من الغياب عنها، من خلال رعاية ما تبقى من شجيرات صغيرة لم يطلها التحطيب أو القلع.
تكثيف عمليات السقاية كان إحدى الوسائل التي اعتمد عليها المزارع خلال الجفاف الحاصل هذا العام من خلال استجلاب المياه عبر صهاريج يتراوح سعر الواحد منها 300 ليرة تركية أي ما يعادل 7 دولارات، وري الأشجار من خلال الحفر حولها على شكل دائري.
يقدر مدير زراعة إدلب مصطفى موحد في تصريح له لوكالة سانا إنتاج الزيتون بما لا يزيد عن 55 ألف طن؛ وهو رقم بعكس ضعف المحصول لهذا الموسم، إذ إن أشجار الزيتون تعرضت لإجهاد مائي شديد خلال فترة الإزهار، ما حال دون وصولها إلى مرحلة العقد، مؤكداً أن زيت الزيتون المنتج في إدلب يُصنّف ضمن فئة الزيت البكر الممتاز، لاعتماد الأهالي على السماد الطبيعي.
تحطيب غير شرعي
يقول وسيم النجم، وهو من سكان الأطراف الغربية لمدينة خان شيخون، إنه عاد مع عائلته إلى مدينته عام 2022 بعد سنوات من النزوح، حيث يمتلك غربالاً للحبوب. يروي أنه طوال فترة سيطرة النظام على ريف إدلب الجنوبي، كانت المنطقة الممتدة من قرية معرزيتا شمالاً حتى معرة النعمان تعد منطقة عسكرية مغلقة يمنع دخول المدنيين إليها إطلاقاً، حيث يوجد حواجز أمنية وتتبع إدارتها لوزارة الدفاع.
ويضيف: "الأشجار لم يقطعها المدنيون، بل الجيش هو من كان مسؤولاً عن التحطيب. كانت هناك ورشات خاصة تأتي لقطع الأشجار وقلعها في المناطق البعيدة عن أنظار الناس. في خان شيخون مثلاً، عادت بعض العائلات قبل سقوط النظام بسنوات قليلة لتحصيل مواسمهم الزراعية، لكن قطع الأشجار حصل فيها عند اقتحام الجيش لها، وبعد عودة بعض العائلات إلى المنطقة، ويتم بشكل منظم تحت حماية الأجهزة الأمنية."
ويشير أبو أحمد إلى أن السيطرة على الأراضي كانت مقسمة بين قادة النظام، ومن أبرز من عرفه الناس في المنطقة تلك الفترة رجل يدعى "أبو أسد" الذي فرض نفوذه على قرى ريف إدلب. ويؤكد أن عمليات التحطيب كانت تتم بتنسيق مباشر مع الفرقة الرابعة، حيث كانت العصابات تقطع الأشجار ليلاً تحت حمايتها، وتبيعه في السوق السوداء في قرى ريف حماه.
ويستذكر حادثة شاهدها بنفسه: "في إحدى الليالي مرت سيارة زرقاء محملة بالحطب قرب غربالي، فأوقفتها الشرطة، وبعد أن سألت أحد معارفي في الشرطة علمت أنها قادمة من صوران. لكن في النهاية لم يحصل شيء، لأن أي تدخل من الشرطة كان ينتهي بسيطرة الفرقة الرابعة على المضبوطات وإنهاء الأمر".
ويتابع: "مرة أخرى، بينما كنت عائداً من إحدى الأراضي في قرية الشيخ مصطفى وقت المغيب، سمعت أصوات مناشير الحطب في أراضٍ قرب كفرسجنة. أبلغت الشرطة حينها، وبالفعل أرسلت دورية، لكن بعد أيام أخبرني أحد عناصرها أن الفرقة الرابعة جاءت وأخذت المحتطِبين والحطب معهم مباشرة، وقال لي: "يا خيي، كلهم تابعين لماهر الأسد، وما بيطلع بإيدنا شي".
أما المدنيون -بحسب شهادته - فكان ممنوعاً عليهم الاحتطاب أو بيع الحطب، إذ كان ينقل كامل الإنتاج إلى المدن الكبيرة، ويباع أيضاً في السوق السوداء بريف حماة في بلدة قمحانة ومعردس وصوران، حيث كان يباع كيلو الحطب حينها بسعر يصل إلى ألفي ليرة سورية، أي ما يعادل دولار ونصف.
يذكر أبو إسحاق أن قريبه قطع ذات مرة شجرة من كرمه، فتم اعتقاله وتغريمه أربعين مليون ليرة سورية، ولم يخرج من السجن إلا عند تحرير سجن حماة وسقوط النظام.
يتفق أبو إسحاق والنجم وغيرهما على أن الدخول إلى المنطقة العسكرية بغرض تعفيش المنازل أو تحطيب الأشجار لم يكن ممكناً لأي شخص، إلا إذا كان يتمتع بدعمٍ من قيادات النظام.
حاول فريق التحقيق التواصل مع العديد من تجار الحطب في مدينة حماة والساحل السوري، ولكن لم يكن لديهم رغبة بإعطاء أي معلومات عن الحطب الذي كان يصل إليهم في الفترة التي يغطيها التحقيق.
أزمة التدفئة في سوريا
بدأت تظهر أزمة نقص مواد التدفئة منذ اندلاع الحرب السورية، وتفاقمت أكثر مع خروج مناطق شمال شرقي سوريا الغنية بالآبار النفطية عن سيطرة النظام، ما دفع السكان إلى استخدام وسائل بديلة عن المازوت كمواد للتدفئة كالحطب بأنواعه المتعددة، وقشور اللوزيات والملابس القديمة، أو الفحم الحجري. ويتراوح سعر طن الحطب بين 200 و300 دولار، بحسب العرض في الأسواق، وجودة الأنواع.
في غرفة صغيرة على جرف جبال بلدة خربة الجوز وبالقرب من منزلها الصغير ترتب أم أسيل -وهي من أهالي البلدة- ما جمعه زوجها من الحطب لإدخاره لفصل الشتاء؛ فالمنطقة عالية وباردة -كما وصفتها- وقد اعتادت عائلتها على استخدام الحطب للتدفئة كل شتاء منذ بداية الحرب السورية، وشح مواد التدفئة وارتفاع أسعارها.
تستهلك عائلة أم أسيل نحو أربعة أطنان من الحطب بمختلف أنواعه، والذي ينتشر في جبل التركمان، حيث يجمع بعض المدنيين من القرى القريبة الحطب على مدار العام بسبب ضعف قدرتهم الشرائية. ويتراوح سعر الطن الواحد من الحطب في هذه المنطقة تحديداً بين 100 و200 دولار، ويزداد الثمن تبعاً لبعد المسافة عن جبال الساحل.
يتردد أبو أسيل إلى جبل الأكراد وجبل التركمان ليجمع ما تيسر له من الحطب اليابس ليؤمن مونة فصل الشتاء. منذ ثلاثة أشهر أصبح جمع الحطب مهمة صعبة وخطيرة، بعد منع قطع الحطب من قبل الحكومة، ويتوجب دفع غرامة دولار عن كل كيلو حطب وسجن ثلاثة أشهر في حال القبض على أي شخص يجمع حطب من الجبال.
ورغم أن هذا القرار يهدف إلى الحفاظ على ما تبقى من الأشجار المثمرة، وحماية المزروعات السورية، إلا أن القلق يداهم الأهالي الذين اعتادوا استخدام الحطب في التدفئة، خاصة مع اقتراب موسم الشتاء.
ملف توثيق ريف دمشق
https://drive.google.com/drive/folders/1r_XP_PhGSK_yIJxS340bKUdPgE0V5Xxf
ملف توثيق إدلب
https://drive.google.com/drive/folders/1mYs2taKOgHBLT02wLkm04u-F80-jEkzc
هذا التحقيق الاستقصائي أعدّه الصحفي/ة ضمن مشروع ينفذه المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، بدعم من منظمة NED وبإشراف الأستاذ أحمد عاشور، وهو يعبّر عن رأي كاتبه/كاتبته فقط.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

