الوضع المظلم
الأربعاء ١٣ / أغسطس / ٢٠٢٥
Logo
  • المخلب الذي انقلب على الجسد أحمد الشرع ونهاية السلفية الجهادية

المخلب الذي انقلب على الجسد أحمد الشرع ونهاية السلفية الجهادية
شادي عادل الخش 

لم يكن المشروع الجهادي، منذ لحظة ولادته الحديثة، حركة تلقائية أو اندفاعا دينيا حرا؛ بل وُلد داخل أروقة القرار الاستخباراتي الغربي، وصُمّم ليخدم وظيفة مؤقتة في سياق صراع استراتيجي أكبر. ففي أواخر السبعينيات، ومع الغزو السوفيتي لأفغانستان، استثمرت الولايات المتحدة في خلق تيار "السلفية الجهادية" كسلاح غير مباشر، يحقق غايات الحرب دون كلفة سياسية. تمّ تمويل المقاتلين، وفتح المعابر، وتجنيد الآلاف عبر عملية "السيكلون" الشهيرة، التي أصبحت لاحقا النموذج الأولي لكل الحروب بالوكالة تحت غطاء العقيدة.

وحين انسحب السوفييت، لم تمت هذه الشبكة؛ بل ظلّت تنمو وتتحور، حتى اصطدمت بمن رعاها في 11 سبتمبر 2001، حين بدا وكأن المخلب انغرز في الجسد. لكن ما بدا كتمرّد كان في الحقيقة فرصة لإعادة هندسة الأداة، وتحويلها من قوة انفلات إلى قوة موجّهة، تنتظر ساعة تصفية هادئة من الداخل.

مع العقدين التاليين، تمددت الجهادية في كل اتجاه، وتنازعت قياداتها، وخرجت عن السيطرة التقليدية للحلف الغربي. لكن الحل لم يكن في المواجهة المكشوفة، بل في صناعة "خنجر داخلي" يتسلل إلى القلب ويقطع الشرايين من الداخل، ثم يعيد رسم الخريطة على نحو يضمن ألا تعود هذه البنية إلى الحياة. وكان المشهد السوري، في لحظة فوضاه القصوى، المسرح الأمثل لهذا الدور.

فُتحت الحدود، وانهارت مناطق بأكملها، وارتفعت رايات كثيرة تحت شعار "نصرة الشعب السوري"، لكن خلف الألوان والشعارات، كانت هناك عملية مركزة لجمع كل روافد الجهادية العالمية في رقعة واحدة.

 لم يكن الأمر فقط عن إنهاء مشروع جهادي، بل عن تشكيل بيئة جديدة، هشّة، مهيأة لأن تبقى كذلك طويلا. بيئة تُستبدل فيها مراكز القوة القديمة بكيانات مؤقتة، ويعاد فيها تشكيل النسيج الاجتماعي بما يضمن استحالة عودته إلى حالته السابقة.

في هذه اللحظة، ظهر أحمد حسين الشرع، ابن دمشق من عائلة قنيطرية، الذي صار لاحقا "أبو محمد الجولاني". انخرط مبكرا في القاعدة بالعراق، ومرّ بسجن بوكا، ثم خرج في ظروف لا تزال غامضة، ليصبح على صلة مباشرة بقيادة التنظيم. وعندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، كان الرجل مستعدا لخطوته التالية: تأسيس "جبهة النصرة"، التي سرعان ما فرضت حضورها بانضباطها وهيكليتها، لكن هدفها لم يكن مجرد تكرار تجربة القاعدة، بل التحرك وفق خطة أوسع من ذلك بكثير.

في 2014، أعلن أبو بكر البغدادي "الخلافة"، لكن الجولاني رفض الالتحاق، واختار الصدام معه. لم يكن الأمر مجرد خلاف عقائدي، بل التزاما بمسار مهمته الأصلية: الدخول إلى قلب المشروع الجهادي، ثم إعادة تنظيمه على نحو يمهّد لتفكيكه. 

وبعد عامين، أعلن فك ارتباطه بالقاعدة، وأطلق "هيئة تحرير الشام"، التي بدأت بابتلاع الفصائل الجهادية الأخرى واحدة تلو الأخرى، حتى غدت إدلب مختبرا مغلقًا يضم كل ما تبقى من قيادات الجهادية العالمية، تحت عين جهاز أمني صارم، ومع شبكة تنسيق غير معلنة مع أنقرة.

بمرور الوقت، بات واضحا أن إدلب ليست فقط "غرفة تصفية" للتنظيمات، بل مساحة اختبار لترتيب سياسي وأمني جديد في سوريا، يقوم على سلطة قابلة للضبط من الخارج، وضمان بقاء البلاد في حالة فقدان دائم لعناصر قوتها التقليدية. ومع نهاية 2024، حانت ساعة المشهد الختامي.

النظام السوري لم يسقط فجأة، بل انهار كما لو أنه ينفذ مخططا محسوبا. انسحبت القوات الأجنبية، وأُخليت الطرق، ودخلت قوات هيئة تحرير الشام إلى دمشق بلا مقاومة. وفي الثامن من ديسمبر، دخل الجولاني العاصمة وسط هتافات فرح منهكة، لا احتفاء به بقدر ما هي تنفّس من وطأة الكابوس السابق. وبعد أيام، أعلن نفسه رئيسا مؤقتا، بحكم الأمر الواقع، وسط دعم إقليمي ورضا دولي بدا وكأنه نتيجة توافق غير مكتوب على شكل سوريا المقبلة.

لكن ما جرى لم يكن تتويجا لطموح شخصي، بل بداية الفصل الأخير في المهمة: إنهاء البنية الجهادية إلى الأبد، في الوقت نفسه الذي تُعاد فيه صياغة البلاد بشكل يجعلها سهلة التوجيه، ضعيفة، بلا قدرة على استعادة سيادتها أو إعادة بناء وحدتها الداخلية.

الآن، وقد اجتمعت الملفات والقوة والشرعية في يد الجولاني، يعود السؤال في مثل هذه المشاريع: هل يُترك للأداة أن تبقى بعد أن أنهت مهمتها، أم يُطوى ملفها مع بقية الملفات؟ التاريخ يميل إلى الخيار الثاني. والأرجح أن أحمد الشرع، الذي بدأ حياته في حضن الجهادية، سينتهي كقربان أخير، يُقدَّم بصمت في لحظة إغلاق الصفحة، لتبقى الخريطة الجديدة بلا شهود من داخلها.

لقد قُتل قرابة المليون سوري، ودمرت بلد بأكملها ،وتحوّلت البنية الوطنية فيها إلى أشلاء، ليس فقط لإنهاء الجهادية، بل لضمان أن تظل سوريا أرضا مكسورة، سهلة الإدارة لمن يملك مفاتيحها. 
هذه ليست مفارقة… بل جوهر المخطط. مشروع جهادي وُلد في دهاليز، واستُثمر في صراعات، وذُبح على يد من اعتبروه أخا، ليصبح في النهاية شاهدا على تفكيك "بلاده"، قبل أن يُدفن فيها.

شادي عادل الخش

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!