الوضع المظلم
السبت ٢٨ / يونيو / ٢٠٢٥
Logo
المشروع الوطني السوري..  من الحاجة إلى الضرورة
شادي عادل الخش 

في كل مفصل تاريخي يعصف بالأمم، تبرز الحاجة إلى ما هو أكثر من إدارة أزمة أو تجاوز مأزق. تبرز الحاجة إلى مشروع، لا بوصفه برنامجًا سياسيًا آنياً، بل كإطار معرفي وسيادي يعيد تعريف الدولة والغاية من وجودها. وسوريا اليوم، بعد أكثر من عقد على انهيار بنيتها السياسية وانفجار نسيجها الاجتماعي، لم تعد بحاجة إلى تغيير في الأشخاص أو تبديل في المواقع، بل إلى إعادة تأسيس شاملة للدولة، تُنقذها من دَوْرها كأداة نزاع، وتُعيدها إلى موقعها الطبيعي كفاعل استقرار إقليمي وفضاء وطني جامع.

لقد أثبت الواقع، بكل تقلباته وصراعاته، أن جميع الحلول الجزئية، مهما بدت واقعية على المدى القصير، عاجزة عن إنتاج توازن فعلي. فما دامت بنية الدولة هشّة، والسلطة بلا عقد اجتماعي، والسيادة مجتزأة، والمواطنة مشروطة، فإن أي استقرار سيبقى هشًا، وأي مشروع تنمية سيبقى حبيس الأوراق.

المشروع الوطني المنشود لا يقدّم بديلًا شخصيًا، ولا يراهن على لحظة فراغ، بل يطرح نفسه كمعادلة شاملة: دولة بهوية وطنية جامعة، بمؤسسات مدنية، بحكم القانون، بتوازن سلطات، وبسيادة فعلية على الأرض والقرار. هذا المشروع لا يقوم على فكرة الانتصار لطرف، بل على استعادة فكرة الدولة نفسها: كجهاز تمثيلي يعمل لصالح مواطنيه جميعًا، دون تمييز أو تفضيل.

القضية لم تعد في من يحكم، بل في كيف تُحكم سوريا؟ وعلى أي أساس؟ ولمصلحة من؟ فالدولة التي لا تستند إلى عقد اجتماعي عادل، تُدار بمنطق الغلبة أو التوظيف، لا بمنطق السيادة والمصلحة العامة. وكل منظومة تُبنى على التبعية أو التقاطع المؤقت مع مراكز القوى، محكومة بالانهيار فور تغيّر موازينها.

لهذا، فإن المشروع الوطني لا يستمد شرعيته من ظرف طارئ، بل من حاجة موضوعية، تتجاوز الأفراد والتحالفات، نحو بناء دولة مستقرة، محايدة، منتجة، قادرة على احتضان اختلافاتها ضمن منظومة قانون وعدالة وتوازن. مشروعٌ ينقل السياسة من كونها صراع غنائم إلى كونها إدارة مصالح عامة.

ولا يمكن لهذا المشروع أن ينجح إن لم يكن متكاملًا: في فلسفته، في أدواته، في رؤيته للهوية والمواطنة، وفي صياغته للعلاقة بين المواطن والدولة، وبين الدولة والمحيط. فهو لا يكتفي بتصحيح التشوهات، بل يعيد هيكلة المفاهيم نفسها: السيادة، التعدد، اللامركزية، المشاركة، المحاسبة، الموارد، المؤسسات، القرار الوطني المستقل.

تجارب الشعوب التي تجاوزت الكارثة لم تنجُ بالحلول الوسط، بل بمشاريع كبرى، وبتضحيات واعية، وبإرادة لا تقبل إعادة إنتاج ما سقط. وسوريا، إن أرادت أن تنهض، لا بد لها أن تخرج من دوامة التبعية والعسكرة والتذرر، نحو وحدة وطنية لا تقوم على الإكراه، بل على العدالة.

وهنا تحديدًا، يبرز المشروع الوطني ليس كخيار بين خيارات، بل كضرورة حتمية، إذا ما أرادت سوريا أن تنجو من مستقبل هش. إنه ليس وعدًا ورديًا، بل خطة شاملة لإعادة إنتاج الدولة على أسس عقلانية وسيادية وإنسانية. وهو لا ينفي التعقيدات، ولا يغفل المصالح الإقليمية والدولية، لكنه يعيد ترتيبها ضمن تصور يضمن للسوريين الحق في تقرير مصيرهم دون وصاية، وللمنطقة شريكًا مسؤولًا لا عبئًا مزمنًا.

إن ما نطرحه ليس شعارًا جديدًا يُضاف إلى رفوف الخطابات، بل هو خريطة تأسيسية لواقع جديد، يعترف بالتعدد، ويتجاوز الثأر، ويضع حدودًا واضحة بين ما هو وطني وما هو وظيفي. مشروع لا يُقاس بعدد المؤيدين، بل بعمق الحاجة إليه، ووضوح بنيته، ومصداقية أدواته.

وبينما تعيش البلاد حالة من الترقب، ويفتش كثيرون عن تسويات فوقية أو تحالفات اضطرارية، هناك حاجة لتيار وطني عاقل، لا يستسلم للواقع، لكنه لا يغامر بالشعب أيضًا. تيار يطرح هذا المشروع باعتباره حجر الأساس في مستقبل سوريا، لا أداة صراع على من يحكمها الآن.

فكل ما هو هش، سيسقط عند أول هزّة. وكل ما لا يملك مشروعًا، سيُستخدم في مشاريع غيره. أما المشروع الوطني، فهو ما يمكن أن يُبقي سوريا واقفة، عادلة، حرة، وآمنة. لا لأنها محمية بقوة ما، بل لأنها محمية بفكرة الدولة، وبارادة شعب لم يعد يقبل أن يُدار خارج اسمه، وخارج مصلحته.

شادي عادل الخش 


 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!