-
بين حكمة الحرب ومكر الاقتصاد
الدكتور: إبراهيم جلال فضلون
"من يملك مفاتيح التقنية، يملك مفاتيح القوة… ومن يملك القوة، يعيد تشكيل العالم وفق حساباته" هنري كسنجر عراب الحروب اليهودية، فتح منذ عقود أبواب المشهد الثقيل للصراعات، حين تتحوّل التكنولوجيا إلى تحكم لعبة الحروب، حيث لم تعد الحرب ساحة صدام بين جيوش نظامية فقط، بل ميدان تتقدم فيه الخوارزميات والطائرات المسيّرة لتعيد رسم معادلات الردع والاقتصاد معاً.. ففي زمن الحروب الرقمية، لم تعد الجيوش وحدها من يحسم المعارك؛ بل الخوارزميات التي ترى أبعد من البشر وتقرر أسرع منهم، حتى غدت هي العقل الخفي الذي يُعيد تشكيل موازين القوة في العالم.. لتفجر شرطية العالم المتألمة اقتصادياً الآن الولايات المتحدة خطوة مفصلية بإعلانها نشر أول سرب من الطائرات المُسيّرة الهجومية من طراز "لوكاس" FLM-136 في الشرق الأوسط، كخطوة ليست مجرد تعزيز عسكري، بل هي رسالة اقتصادية – جيوسياسية تُدرك واشنطن أنها ستعيد تشكيل موازين التقنية والدفاع والردع في المنطقة الملتهبة، وذلك تحت مظلة قوة المهام "سكوربيون سترايك" التي دشّنتها القيادة المركزية الأميركية بعد توجيهات بتسريع امتلاك تقنيات مُسيّرة منخفضة التكلفة وقابلة للنشر السريع.
إنها لا تعني أن واشنطن تطلق "ضربة العقرب" في الشرق الأوسط.. بسرب جديد يطارد إيران، بل لها أغراض اقتصادية ضد الأغراض التجارية الصينية بالمنطقة والروسية، وتخدم الأهداف الماسونية الإسرائيلية في التوسع، ، لتستعرض عضلاتها الجوفاء بالطائرة المُسيّرة "لوكاس" بوصفها نسخة أميركية منخفضة التكلفة، تحاكي قدرات المسيّرة الإيرانية "شاهد 136" التي هزّت خطوط الاشتباك من الخليج إلى أوكرانيا. لكن الفارق هنا أن واشنطن تحاكي السلاح المُقتبس ضدّها، ثم تعيد هندسته بقدرات تتجاوز النموذج الأصلي.
إنه فشل أمريكي جديد حيث شهدت الحروب الحديثة (ناهيكم عن القديمة) التي شاركت فيها الولايات المتحدة، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، إخفاقات واضحة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية طويلة المدى، وتُعد أبرز هذه الحروب وأمثلة فشلها، حرب أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة في أفغانستان (2001-2021)، وانتهي بالانسحاب الفوضوي، وعودة طالبان، بتكلفة بشرية ومالية كبيرة دون تحقيق الاستقرار الدائم. . وهناك حرب العراق (2003-2011)، وكانت سبباً في ظهور فراغ أمني وسياسي، واندلاع حرب طائفية عنيفة، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لاحقًا. مع توسع النفوذ الإيراني، ثم التدخلات في سوريا وليبيا واليمن.
والآن الدور ذا أبعاد اقتصادية لتقنيات الطائرات المسيّرة، حيثُ تشير أحدث تقديرات المؤسسات الدفاعية الدولية إلى أن سوق الطائرات بدون طيار تجاوز 30 مليار دولار عام 2024، مع توقعات ببلوغه 90 مليار دولار بحلول 2030. وتستحوذ أميركا وحدها على أكثر من 40% من حجم الاستثمارات في هذا القطاع، بينما تتسابق أوروبا لرفع حصتها التي لا تزال دون المستوى الأميركي بنحو مرتين إلى ثلاث مرات، وهنا نرى أثر الاستثمار الأميركي – الأوروبي بضخّ مليارات الدولارات في الصناعات الإلكترونية والذكاء الاصطناعي وأنظمة الدفع الصغيرة؛ لتعويض فجوة الابتكار التي اتسعت بعد استخدام روسيا وإيران وسائر الوكلاء الإقليميين للمُسيّرات الرخيصة في ساحات الصراع، كما أن المسيرات أقل تكلفة من استخدام صواريخ كروز أو طائرات مأهولة في عمليات دقيقة.
ومن حيث التداعيات العالمية والإقليمية… حين تصبح المُسيّرة أداة ردع وجباية سياسية، تكون هي وسيلة ديناميكية للحروب الحديثة، بل وتعتبر سياسة للضغط التكنولوجي على الأخرين، خاصة المسيرات الإيرانية وهيمنتها على سوق المُسيّرات الرخيصة وسط الوكلاء تُهدّد توازن القوى، ولذلك تستخدم النسخ الأميركية كأداة لمعادلة الكفّةوهنا لا ننسي الاحتلال الإسرائيلى… المستفيد الأكبر في الخفاء، من تعزيز الانتشار الأميركي للطائرات المسيّرة في المنطقة، بما يوفر لها مظلة ردع مجانية ضد التهديدات الإيرانية، ويفتح الباب لزيادة صادراتها من تقنيات الاعتراض والرادارات، كما يسمح لها بلعب دور "المزوّد الأمني" للدول القلقة من انتشار المسيّرات الانتحارية، وهو ما يخدمها سياسياً، بتوظّيف هذا التحول لصياغة مشهد يخدم توسعها الاقتصادي والعسكري، ضمن لعبة توازن دقيق بين واشنطن والعواصم العربية.
لكن التأثير على الأمن والاستقرار الاقتصادي العالمي، يعني أن كل توتر سياسي يمكن أن يُترجم فوراً إلى اهتزازات في أسواق النفط وصعود حاد في أسعار التأمين البحري، فالمنطقة اليوم ليست مجرد ساحة صراع… بل مركز حيوي يتحكم في 30% من تجارة الطاقة العالمية، ما يجعل أي اضطراب ناتج عن انتشار هذه التقنيات مؤثراً مباشرًا، بل وإن زيادة خطر الهجمات على البنى التحتية للطاقة يرفع تكلفة الاستثمار الأجنبي المباشر، ويزيد الضغط على سلاسل الإمداد العالمية، وفي المقابل، تستفيد شركات الدفاع الأميركية والغربية من زيادة الطلب الإقليمي على أنظمة الحماية والإنذار المبكر، ما يحوّل التوترات إلى فرص اقتصادية عملاقة.
وقفة: بين حكمة الحرب ومكر الاقتصاد.. يقول المثل العربي "من لا يحسب خطواته، تسقطه أول شرارة"، هكذا تبدو ساحة الشرق الأوسط اليوم: شرارة واحدة قد تغيّر قواعد الاقتصاد العالمي، فإدارة التكنولوجيا بحكمة قد تصنع قوة…
أما إطلاقها بلا ضوابط فقد يشعل حريقاً يدفع العالم ثمنه لعقود.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

