الوضع المظلم
الأحد ١٥ / يونيو / ٢٠٢٥
Logo
  • ياسين الحافظ ينتقد قصور الوعي لدى الماركسيين والقوميين في العالم العربي /2 – 3/ 

  • ثانيًا - نقده للماركسيين ودعوته إلى " تعريب " الماركسية
ياسين الحافظ ينتقد قصور الوعي لدى الماركسيين والقوميين في العالم العربي /2 – 3/ 
عبدالله تركماني

 ميّز ياسين الحافظ بين الأيديولوجيا والمعرفة العلمية حين أدخل أفكار المفكر الفرنسي ألتوسير (Althusser) المجال التداولي للفكر العربي، الأمر الذي ساهم في منح خطابه تفرّداً وخصوصية منهجية علمية متماسكة، فضحت مدى امتلاء الوعي الماركسي العربي السائد بأوهام الأيديولوجيا. وقد أدت المقابلة بين المنهجين إلى أن يكتشف الحافظ السماتموقع ليفانت نيوز الإخباري .. أخبار الشرق الأوسط الأساسية للسياسات الصائبة تجاه القضايا العربية، فحددها بثلاث: الأمّويّة، وبناء الديمقراطية، والوعي المطابق بمستوياته الثلاثة (وعي كوني، وعي حديث، وعي تاريخي). ومن الواضح أنه التزم المنهج الماركسي في التحليل، إلا أنه دعا إلى استخلاص تركيبة ماركسية عربية، التي بدونها " ستبقى الماركسية شيئاً برّانياً بالنسبة للعرب لا يتغلغل في ثنايا الذهن العربي ". ومن ثم دعا إلى ضرورة صياغة أبحاث ماركسية ملموسة عن الواقع العربي، بما يكفل " تحوّل الماركسية في المجتمع العربي من شيء برّاني الى شيء جوّاني "، أي " من الماركسية إلى الماركسية العربية، الأمر الذي يعطي هذه النهاجية كل فعاليتها في تحديث الفكر العربي ثم الأيديولوجيا العربية، بوصفه أحد الأهداف الأكثر أهمية للثورة العربية "10.
ومن المنظور الماركسي الديمقراطي أدان الشيوعية العربية التي خاضت معركة الماركسية السوفياتية - الستالينية ضد الليبيرالية، دون أن تستوعب أنّ نقد الليبيرالية من موقع متخلف عنها، من موقع المجتمع الذي لم يحقق منجزاتها، لن يكون نقداً اشتراكياً بل " تأخراكياً "، وتلك سمة ميزت خطابه الماركسي العربي عن الخطاب الماركسي التقليدي. خاصة وأنّ هذا الخطاب،  بعد الحرب العالمية الثانية وانتصار الاتحاد السوفياتي على النازية، هاله هذا الانتصار ودفعه إلى مزيد من التأقلم مع الخطاب الستاليني، إن لم نقل " أصبح أكثر إذعاناً وتماهياً مع خطاب المركز، الذي كان يخوض معركة الستالينية ضد الديمقراطية الغربية البورجوازية واشتقاقاتها ومعادلاتها الليبيرالية، وإذا كانت الستالينية ذات مصلحة في حربها الأيديولوجية ضد الديمقراطية بصيغتها البورجوازية والاشتراكية لأنها تخدم وثنيتها السلطوية البيروقراطية، ولكن أين هي مصلحة الأحزاب الشيوعية في البلدان المتخلفة ذات الأيديولوجيا القروسطية، الغارقة في سحر الرؤية المُعجبة بعالم لا يزال مكبّلاً بهالة الذاكرة الجماعية. إنّ بلدان ما قبل الرأسمالية، بل بلدان ما قبل الدولة، المأهولة بسحر أوهام  مَيْثِيَّة رفيعة، لم تكن حربها ضد الديمقراطية إلا حرباً مجانية عبثية، ليست لها أية علاقة بالوعي التاريخي الماركسي الذي هو نتاج موضوعي لمجتمع العقلانية والديمقراطية والحداثة "11.
وأخذ الحافظ على الشيوعية العربية، التي كان من المفترض أن تمتلك وعياً كونياً يمثل الخلاصة الأرقى لتطور العقلانية، أنها كانت في السياق العربي " امتثالية ووثوقية "، لم تنقد الخصوصية التاريخية لواقعها، لتتمكن من التمفصل في إشكالاته المركزية، ولتنتج وعياً خلاقاً لهذه الخصوصية، من أجل نقدها ومن ثم تجاوزها. ولهذا عجزت عن إنتاج ماركسية مبدعة خلاقة، ملتصقة بزمنها وتاريخها، مثلما فعلت الانتلجنسيا الفيتنامية والصينية. بل حكمتها امتثاليتها الدوغمائية نحو النصوص الستالينية من جهة، وواقع تكوينها الأقلوي من جهة أخرى، فأنتجت مفاهيم تحولت إلى سياج فكري في يد أعداء الوحدة، لتبرير استمرارية التجزئة، تحت ستار وجود شعب متميّز، تحتويه النظريات العلمية وتعترف بكيانه الإقليمي.
وفي محاولة منه لتحليل أسباب عزلة الأحزاب الشيوعية العربية وجد أنها " غير نقدية " و" سياسوية " غفلت تمامًا عن المسألة المركزية في الواقع العربي: التأخر، وإسقاط واقعة التأخر سيقود ضرورياً إلى تشويه الديمقراطية، ومن ثم اختزالها إلى " إصلاح زراعي " لم يفعل في التجربة العربية ما ينبغي أن يفعله من حيث " تحرير الفلاحين من قيم وقيود المجتمع التقليدي القاهرة، مما أدى إلى أن يقف هذا الإصلاح عند حدود " كولكة الريف "، لذلك نعتها بـ " الماركسية المتأخرة ".
وانطلاقاً من ذلك تساءل الحافظ: لماذا أسقطت الماركسية العربية المؤسسية مقولة التأخر، ولماذا كرّست المنظومات التنموية؟12: 
1 - لأنها " كررت ببغائياً مقولات الماركسية السوفياتية "، التي تجهل بالطبع المشكلات العيانية العربية من جهة، ومن جهة أخرى لأنّ الماركسية السوفياتية فرضت عليها إشكاليات وهموماً لا تمت بصلة إلى الواقع العربي، إضافة إلى الفهم السطحي للمنظور " التصنيعوي " السوفياتي الذي أسهم في دفعها لإسقاط واقعة التأخر العربي وتبنّي منظورات تنموية. 
2 - لأنها أسقطت البعد التاريخي للواقع العربي، مما جعلها تضع جانباً مقولات " الاستبداد الشرقي " الماركسية، هذه المقولات التي تقدم أدوات وعي مناسب بجوانب الضعف والقصور، المكوَّنة عبر التاريخ في المجتمع العربي، وتدفع بالتالي إلى التأكيد على المكانة المركزية التي للثورة القومية الديمقراطية في تقدم المجتمع العربي.
3 - لأنها " اقتصادوية "، وهذا ما جعلها تنكر الأبعاد المجتمعية والأيديولوجية والسياسية التي للتأخر العربي، فعجزت عن التقاط تأثيراتها السلبية، بل الكابحة، على محاولات التنمية التي شهدها العالم العربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد وجد الحافظ أنّ قصور وتأخر الشيوعية العربية يكمن في أنها لم تتمكن من تجاوز إشكالية المثقف التقليدي والحديث، فكانت تفتقر إلى الحصافة والجذرية في رؤيتها ومواجهتها للواقع التقليدي العربي، كما أنها افتقرت إلى الجذرية في موقفها من الهيمنة الإمبريالية، وبذلك لم تكن أقل عجزًا من النموذجين الآخرين (المغترب عن المجتمع، والمغترب عن العصر)، لأنها لم تتمكن من " تعريب " الماركسية، كما " فتنمها " الفيتناميون، و" صيّنها " الصينيون، فكانت في أيديهم سلاح انعتاق من أسر التأخر، وسلاح تحرر راديكالي من الاستعمار13. 
ولم يكتفِ الحافظ بتوجيه النقد إلى الشيوعية العربية، بل أبدى طموحه إلى امتلاك الماركسية امتلاكاً وطنياً، وقومياً، وتاريخياً، وكونياً، فكانت ترسيمته النظرية عن " الوعي المطابق "، أي المطابق للواقع والمناسب للهدف المرسوم. لذلك اعتبر الماركسية هي الفكر الغربي الوحيد الذي يمكن للمثقف الوطني في " العالم الثالث " أن ينتظم في منهجيته النظرية والمعرفية، دون أن توضع هويته الوطنية أمام سؤال (الأنا والآخر)، نظراً لما مثلته الماركسية من فكر نقدي انشقاقي على تراث الرأسمالية وأطماعها التوسعية. أي أنها الفكر الغربي الذي يتيح لمثقف البلدان المتأخرة أن يكون وطنياً بحق، بالدرجة ذاتها الذي يكون فيها كونياً، أي عقلانياً وديمقراطياً، إنساناً يعيش ليس بجسده فقط في حاضر العصر، بل يعيش بعقله مستقبله أيضاً، بدون استسلام او إلحاق واستتباع14. 
 وفي سياق محاولته " تعريب الماركسية " أعلن انتظامه في منهجية عدد من المفكرين الماركسيين، خاصة غرامشي (Gramsci) ولوكاش (Lukacs)، إضافة إلى توظيفه عقلانية ماكس فيبر(Weber) الليبيرالية المضادة للماركسية، في خطابه النظري للانتقال من الوعي الامتثالي إلى الوعي النقدي، ومن الوعي الأيديولوجي إلى الوعي المطابق15.  
كما رأى الحافظ أنّ الماركسية، بعقلانيتها النقدية وميراثها التنويري، قادرة على تغطية الفجوة التاريخية المتمثلة بانعدام فرص تكوّن طبقة بورجوازية في بلداننا. ذلك أنّ المستوى التاريخي من " الوعي المطابق " يعلّم أنّ الاشتراكية لا يمكن أن تُبنى على أرضية ومفاهيم ومناهج تقليدية ووسطوية، بل فقط على أرضية ليبيرالية. وقد أسس هذا الموقف على الأطروحة الماركسية القائلة " إنّ الأمة يجب عليها أن تستخلص درساً من تاريخ أمة أخرى، لكن عندما يصل مجتمع الى اكتشاف درب القانون الطبيعي الذي يحكم حركته ... لا يمكنه أن يتجاوزه بقفزة ولا أن يلغي بمراسيم مراحل تطوره الطبيعي، بل يمكنه أن يختصر فترة الحمل ويلطّف آلام الولادة "16.
وهنا تحضر المقارنة التاريخية، فكتابات ماركس صيغت في سياق النضال الديمقراطي الألماني، الذي كان متجاوَزاً من قبل الفرنسيين والإنكليز، وعلى هذا فإنّ النضال القومي الديمقراطي الألماني هو الأقرب في سماته التاريخية إلى النضال القومي الديمقراطي العربي. ثم أنّ نقد الأيديولوجيا الألمانية من قبل ماركس، تذكّرُ الديمقراطي العربي بمهمة أساسية، كان وما يزال يضعها جانباً، وهي: أنّ تصفية كل ما هو وسطوي وفائت في الأيديولوجيا العربية شرط لابدَّ منه لتلافي التأخر الذي يسحق الشعب العربي. 
لقد كان طموح الحافظ لإدراج الماركسية في البنية التكوينية للثقافة العربية وطموحه إلى " تعريبها " سابقاً لتطور منظومته المعرفية ونضجها النظري والمفاهيمي، بل هو نتاج سيرورة تجربته وممارسته الفكرية والسياسية مع حزب البعث، والحزب الشيوعي، ومن ثم اختلافه معهما والبحث عن بديل يتجاوز ممارسته السياسية والحزبية. لهذا بدت له الماركسية، في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي في العالم العربي عامة، وفي مشرقه خاصة " مُذَلَّةً، مُهَانَةً، مُطَارَدَةً، مَعْزُولَةً، وبكلمة: كانت الماركسية ضحية "17. لذلك وضع لنفسه هدفاً تمثّل بكشف التضليل المتستر خلف محاربة الجمود العقائدي الستاليني بغية تحويل الماركسية الى مجرد " مستشار أجنبي " من جهة، ومن جهة أخرى لابدَّ من نقد الممارسة الستالينية للأحزاب الشيوعية. وهذه العملية المزدوجة كانت تقتضي فهماً جديداً للماركسية، صاغه الحافظ بهدف التأسيس لممكنات نظرية ليسار عربي جديد منذ الستينيات، وبلور مفاهيمه ومعطياته في السبعينيات في ثلاث نقاط رئيسية هي18:
1 - تعريب الماركسية، لأنّ إشكالات الواقع العربي لا تجد لها حلاً في الموضوعات الماركسية الكلاسيكية، وذلك يعني " تحقيق اندماجها مع حركة الجماهير العربية خلال الممارسة الثورية ". بما يقتضيه ذلك من " نبذ الصيغ المحفوظة " والمرددة كما هـي، و" النقل السطحي الميكانيكي والمقارنات التاريخية ". فلابدَّ لعملية " تعريب الماركسية " من الانفتاح الدائم على الواقع العربي الملموس، حيث النظرية تُصَحِّحُ وتُطَوِّرُ نفسها على ضوء معطيات الممارسة، وهذا يعني " نفي وجود نظرية جاهزة ونهائية ".
2 - علمية وعلمانية الماركسية، إذ إنّ الانطلاق من الواقع، واعتبار الحقيقة دائماً ثورية كامنة في بنية وعي الحافظ، ولذا فهو منذ الستينيات يتنبه إلى خصوصيات الواقع العربي (خاصة التخلف الثقافي)، وعليه فإنها تتطلب الجانب العلمي والعلماني من الماركسية للاستجابة لحاجاته للتقدم.. وقد شدد على خصوصية المجتمع العربي، بوصفه أشد حاجة لهذه العلمية والعلمانية " لأنه لم يعش المرحلة الديمقراطية البورجوازية على الصعيد - الفكري والثقافي ". وقد تعمق فهمه لهذه المسألة بعد خيبته بالمشروع القومي التقدمي، وبعد استفادته من تاريخانية المفكر المغربي عبد الله العروي، حيث عمل هذا المفكر خلال أكثر من ثلاثة عقود متواصلة، وما زال يعمل بكثير من الجهد، على بلورة مشروع فكري موصول بأسئلة التاريخ العربي في أبعاده المختلفة. وياسين الحافظ، أحد ألمع من تفاعل مع الموضوعات النقدية الجديدة التي اقترحها العروي على الوعي العربي لم يجد حرجاً في القول بـ " أنّ عبد الله العروي، من خلال منهجه التاريخاني، هو الذي أضاء رؤيته للواقع العربي في بعديه الكوني والتاريخي، وبأنه هو صاحب القول من منظور تاريخاني بتكامل الليبيرالية مع الماركسية في سياق تاريخية واقع التأخر العربي، رغم تناقضهما في السياق التاريخي العربي "19.
3 - ثورية الماركسية ورفض الإصلاحية اليمينية، وهنا يشير إلى تمييز الماركسية بين إصلاحيتين: ثورية، وهي التي تنتزع من الرجعية قسماً من قواها ومواقعها تمهد لتقويض سلطتها. ورجعية، تصبح في خدمة الرجعية عندما لا تزعزع سلطتها ونفوذها20. 
وفي سياق بحثه عن " تعريب الماركسية " وجّه عدة ملاحظات نقدية للأحزاب الشيوعية العربية، ومن أهمها أنها - بسبب ستالينيتها - أدت إلى عزلة الماركسية، وقد ظهرت هذه الستالينية في تاريخ هذه الأحزاب بعدة مظاهر21: 
- اعتماد الحلول الجاهزة للواقع من خلال الاعتماد على الموضوعات الماركسية الكلاسيكية.
- الجمود العقائدي بوصفه ظاهرة انحطاط في الماركسية، بينما اللينينية تَعْمَدُ إلى تعديل الأهداف خلال الممارسة، وتِبْعاً للواقع الملموس المتطور والمتغيّر.
- الصيغ المحفوظة غيباً، والمرددة كما هي، والنقل السطحي الميكانيكي، والمقارنات التاريخية التي تستبدل الرؤية العلمية الصافية برؤية رمادية حَوْلاء، تُؤدي إلى " عقائدية كُلِّية " وممارسة الوصاية على الجماهير، ومن ثم تقود إلى ضربٍ من الطغيان.
- الانطلاق من وجود نظرية جاهزة ونهائية ما أن تُلامس الواقع العربي حتى تُحدِّد سيره النهائي وتكشف حجب الغيب التي تنتظر هذا الواقع.
الهوامش:

10 - ياسين الحافظ: في المسألة القومية...، المرجع السابق، ص 194.
11 - د. عبد الرزاق عيد: ياسين الحافظ ...، المرجع السابق، ص ص 53 و54.
12 - د. عبد الرزاق عيد: ياسين الحافظ ...، المرجع السابق، ص 124.
13 - د. عبد الرزاق عيد: ياسين الحافظ ...، المرجع السابق، ص 124.
14 - د. عبد الرزاق عيد: ياسين الحافظ ...، المرجع السابق، ص ص 124 و125.
15 - د. عبد الرزاق عيد: ياسين الحافظ ...، المرجع السابق، ص 125.
16 - ياسين الحافظ: التجربة التاريخية الفيتنامية/تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربية، دار الحصاد – دمشق 1997، ط3، ص 16.  
17 - ياسين الحافظ: في المسألة القومية...، المرجع السابق، ص 262. 
18 - ياسين الحافظ: حول بعض...، المرجع السابق، ص ص 271 – 279.
19 - د. عبدالله تركماني وآخرون: الثقافة العربية في القرن العشرين (نقد التأخر التاريخي العربي)، مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت 2011، ط1.
20 - ياسين الحافظ: حول بعض...، المرجع السابق، ص ص 278 و279.
21 - د. عبد الرزاق عيد: ياسين الحافظ ... ، المرجع السابق، ص 118.

ليفانت: الدكتور عبدالله تركماني
 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!