الوضع المظلم
الثلاثاء ١١ / نوفمبر / ٢٠٢٥
Logo
الحياد في زمن الد.م… شراكة في الجر.يمة
عبدالله البنيه

في بلادٍ صارت فيها الكلمة رصاصة، والهمس تهمة، والسكوت ملاذًا من الخوف، اختار كثيرون الصمت.
صمتوا حين كانت درعا تُقصف، وحمص تُحاصر، والبراميل تُلقى على رؤوس المدنيين كما يُلقى القمح في موسم الحصاد.
لم يتكلموا، لم يصرخوا، لم يُشيروا حتى إلى الدم المتدفق من الشاشات.
ثم بعد أربعة عشر عامًا من المأساة، خرجوا إلينا بأصواتٍ عالية، يتحدثون عن الثورة والتغيير، وكأنهم كانوا في طليعتها يوم كانت تُذبح أمامهم.
أيّ حيادٍ هذا بين القاتل والمقتول؟
وأيّ “اتزانٍ” ذاك الذي يجعل من المتفرّج على الجريمة شاهدًا بلا ضمير؟
إنّ الحياد في زمن الدم ليس موقفًا، بل سقوطٌ أخلاقي، ومن يختبئ خلفه ليس سوى شريكٍ صامت في الجريمة.
في زمن المخلوع بشار الأسد، حين كانت الكلمة تساوي رصاصة، كان بعض الفنانين والمثقفين والإعلاميين يتحدثون عن “الواقعية” و“الانحياز للإنسان” و“الحفاظ على وحدة الوطن”، لكنهم في الحقيقة كانوا يزينون جبنهم بشعارات الحياد.
لم يكن ذلك حيادًا؛ كان تجميلًا للخوف، وتبريرًا للسكوت، وتواطؤًا مع المجرم في أبسط معانيه.
في الوقت الذي كانت فيه مدنٌ سورية تُباد، وأطفالٌ يُنتزعون من بين الأنقاض، وعائلاتٌ تُدفن تحت الركام، اكتفى هؤلاء الصامتون بالحياد “الفني” و“الإنساني” و“الرمادي”.
أما أولئك الذين تكلموا، فقد عرفوا أن صوتهم قد يكلّفهم حياتهم، ومع ذلك تكلّموا.
تكلّموا لأن الصمت كان موتًا، لأن السكوت كان اشتراكًا في الجريمة، ولأن الحرية لا تُنال إلا بثمنٍ فادح.
اليوم، بعد كل هذه السنوات، يعود بعضهم إلى الساحة مزهوّين بعبارات “التنوير” و“الوعي” و“التحوّل”.
يكتبون منشوراتٍ عن الثورة، يصنعون أفلامًا عن المأساة، ويتحدثون في البرامج عن الظلم، وكأنهم لم يكونوا جزءًا من صمته.
يتناسون أن النظام الذي سقط أخلاقيًا قبل أن يسقط سياسيًا، ارتكب مجازر لم تعرف لها البشرية مثيلًا،
مجازر تجاوزت الهولوكست في فظاعتها، إذ جمعت بين القتل والحرق والاغتصاب والتعذيب والتجويع والإخفاء القسري.
لم تكن الحرب في سوريا مجرد صراعٍ على السلطة، بل اختبارًا أخلاقيًا للإنسان السوري.
اختبارًا كشف من آثر الحياة على الكرامة، ومن اختار الصوت على الصمت، ومن خذل الضحية حين احتاجت إلى كلمة.
لهذا، سيظلّ التاريخ يُفرّق بين من قال “لا” حين كانت تساوي المقصلة،
وبين من صمت ثم عاد بعد أعوامٍ ليدّعي البطولة وهو يحمل على كتفيه خطيئة السكوت.
فالحياد في زمن الجريمة ليس وجهة نظر،
بل وجه آخر للخيانة.

ليفانت: عبدالله البنيه
 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!