الوضع المظلم
الأحد ٢٨ / ديسمبر / ٢٠٢٥
Logo
عن الحقّ السياسيّ مدخلاً لحقوق الكرد في سوريا
شيار خليل

مذ تشكّل الحياة السياسيّة في سوريا، كان للكورد دوراً أساسيّاً وبارزاً فيها، لم تكن هذه الجماعة السياسيّة هامشيّة وطارئة على المشهد السياسيّ العام، إذ أنّهم كانوا من أقدم الفاعلين السياسيين المنظّمين في البلاد؛ فالحركة السياسيّة الكرديّة تشكّلت مع نشوء الدولة السوريّة، وناضلت في سبيل الحقوق السياسيّة للشعب الكورديّ، ومع تطوّر الأحداث وصعود التيّارات القوميّة في البلاد وتحكّم الأحزاب بمفاصل الدولة وصولاً للوحدة وحزب البعث، صعّد الكورد من نضالهم السياسيّ، وباتوا الجماعة الأكثر حضوراً في معارضة الأنظمة السوريّة المتعاقبة، في وقت كانت السياسة فعلاً محفوفاً بالمخاطر، يتعرّض أصحابه للملاحقة والاعتقال وأحياناً كثيرة النفي.

من نافل القول، لم تنشأ الأحزاب الكوردية في سوريا بوصفها منظمات ثقافية أو لأهداف لغوية أو اجتماعية، بل قدمت نفسها كحركات سياسيّة معارضة مُحدّدة المطالب، سعت إلى الاعتراف بالهويّة السياسيّة للشعب الكورديّ في البلاد، منطلقة من أساسها في ديمقراطية سوريا، والمساواة، والعدالة، والمشاركة في الشأن العام، ومنذ نشأتها، كان النشاط الكوردي سياسيّاً بحتاً في جوهره، يتضمّن بطبيعته نشاطات فكرية وثقافية وأدبية، ولكن لا بوصفها بديلًا عن السياسة، بل باعتبارها جزءًا مكملاً لها وأداة من أدواتها، فالثقافة، في التجربة الكوردية السورية، كانت على الدوام مساحة وعي ومقاومة ونضال، لا قناعاً لإخفاء المطالب السياسية أو الالتفاف عليها.

في هذا الصدد، ثمّة سعي واضح لدى الأطراف السوريّة المختلفة، المعارضة للأنظمة أو الموالية لها، في اختزال وإعادة تعريف القضية الكورديّة بوصفها قضية ثقافية أو لغوية أو اجتماعية فحسب، بما يشمل التجاهل التّام للأحقيّة السياسيّة التي ينطلق منها التاريخ الطويل من الممارسات العنصرية الممنهجة للغايات السياسيّة ضد الشعب الكورديّ؛ وهذا، ليس براءة سياسيّة، بل إعادة صياغة مقصودة للذاكرة السياسية الجمعيّة السوريّة التي تودّ الاطلاع على الكورد باعتبارهم عرب بالمعنى السياسي وكورد بالمعنى الثقافي وتشكيلهم كطائفة عربية رديفة، وهو الهدف من نقل الكورد من موقع الفاعل السياسي إلى خانة الجماعة الثقافية التي يُسمح لها بالتعبير ضمن حدود مرسومة مسبقاً، أو هي حالة من الجهل بتلك القضية سياسياً وهو ما أظنه مستبعداً في الحالة السورية.

في مطلق الأحوال، تتطوّر أحوال الخطابات السياسيّة الرسميّة الموجّهة إلى الكورد، وتتخذ أشكالاً وأنماطاً مختلفة، ولا يتم اعتماد منهج واحد ثابت، إذ لا يتم نفي وجود الكورد كقوميّة بالمطلق الآن، إنما يتم الاعتراف بهم بشروط وضوابط، إن طُبق، لن يبقى الكورد كورداً، سيكونون عرباً كما تودهم السلطة. والاعتراف لا يغدو كونه اعتراف بأغنية ومعهد كوردي.

هذه جوهر المعضلة التي نحكي عنها ونودّ معالجتها، فلا بد من التوقف عند جوهر الذهنية التي تحكم هذا التعامل، كما تتجلّى في الخطاب والممارسة معاً، فالدولة السورية، في بنيتها القومية المركزية الحاليّة والسابقة، تقبل بالكورد بوصفهم مكوناً ثقافياً متمايزاً ببعض المزايا اللغوية، لكنها تتحفّظ على الاعتراف بهم كجماعة سياسية لها تاريخها ومطالبها ورؤيتها لشكل الدولة، يتم تقديمهم كأقلية لغوية ذات خصوصية ثقافية فرعية، مندمجة بالضرورة في هوية قومية أوسع، لا كشركاء متساوين في تعريف الهوية الوطنية نفسها أو ضمن المفهوم الديمقراطي للهوية الوطنية.

في مطلق الأحوال، يصبح الفصل بين الثقافة والسياسة أداة إقصاء بكل تأكيد في هذا المبحث، ويفتح المجال للتعبير الثقافي، بينما يُغلق المجال أمام التنظيم السياسي والمطالب الجماعية، حيث يُحتفى باللغة، وتُعرض الرموز شكلياً، لكن يُحاصَر النقاش حول تقاسم السلطة والقرار، وهنا تحديداً وبهذا الشكل، لن يكون الاعتراف الثقافي خطوة نحو العدالة، بل بديلًا زائفًا عنها، وتمييعاً لتلك القضية التي يفترض أن تكون وطنية بالدرجة الأولى.

تعرّضت مناطق كوردية عدة لعمليات تغيير ديموغرافي ممنهجة، ما يزيد الخطر على الهوية الكوردية، ففي الوقت الذي يُروَّج فيه لخطاب رمزي وشكلي عن التنوّع والعيش المشترك، تستمر ممارسات الاقتلاع والمصادرة والتهميش للبشر والشجر، ويُقصى السكان الأصليون فعليًا عن جغرافيتهم وعن أي دور في تقرير مصير مناطقهم، ومن هنا نلاحظ أن هذا التناقض بين الخطاب والممارسة يكشف أن الثقافة، حين تُفصل عن السياسة، تفقد معناها الأخلاقي، وتتحوّل إلى غطاء لغوي لواقع سياسي عنيف وتغيير ممنهج لحقيقة المفهوم الوطني بالعيش المشترك بين جميع المكونات.

ما يجب قوله: القضية الكوردية في سوريا ليست قضية لغة أو تراث أو حقوق ثقافيّة ودبكات فلكلورية فحسب ولم تكن كذلك يوماً، إنما هي قضية تتعلّق بشكل الدولة، وطبيعة النظام السياسي، ومفهوم الشراكة الوطنية لبناء متساو في الحقوق والواجبات، مع الحفاظ على خصوصية كل مكون. 
إنها قضية تتعلّق بالسؤال عن من يملك حق المشاركة في تعريف الدولة وصياغة مستقبلها وتشكيلها؟

لهذا ومن هذا المنطلق، فإن الإصرار على تقديم الثقافة بوصفها الحل، لا يُعدّ سوى محاولة للهروب من هذه الأسئلة الجوهرية. فجامعة بالكوردية، أو منصة إعلامية بهذه اللغة، أو فعالية ثقافية مهما اتّسع نطاقها، لا يمكن أن تعوّض غياب الاعتراف السياسي، ولا أن تحلّ محلّ الحقوق الجماعية، ولا أن تُغني عن الشراكة في القرار، فالمعضلة الأساسية في الشراكة الحقيقية في بناء الدولة وليس احتكار الدولة من طرف سياسي معين لهندسته وفق رغباته الإيديولوجية والسياسية.

إن الكورد، الذين خاضوا العمل السياسي منذ عقود، ودفَعوا أثمانًا باهظة من المعتقلات والملاحقات والنفي وصولاً للقتل والتصفية، يدركون جيدًا أن حصرهم في الفضاء الثقافي ليس اعترافًا حقيقياً بكورديتهم، بل هي محاولة إعادة تموضع قسري خارج السياسة، وبنفس الوقت يدركون أن الاعتراف الحقيقي لا يُقاس بعدد الفعاليات أو الخطابات والحفلات الفنية، بل بمدى الاستعداد للاعتراف بالتعدد السياسي، وبناء دولة تستوعب مكوّناتها على أساس المساواة، لا الهيمنة، وعلى أساس دستور يحترم حقوق الجميع بدون إقصاء .

الاعتراف السياسي هو ما يجعل الحقوق الثقافية حقوق بديهية غير قابلة للنقاش والتفاوض؛ أما التركيز على الحقوق الثقافية فيعني أن لا حقوق سياسية للكورد. وهنا المشكلة.

فمن دون اعتراف سياسي دستوري حقيقي، يبقى كل احتفاء ثقافي مجرّد ديكور هشّ، يؤجّل مواجهة الأسئلة بدل الإجابة عنها، ويُبقي الجرح مفتوحًا تحت طبقة رقيقة من الخطاب الجميل المجّمل، يحرمنا الوصول إلى سوريا لكل السوريين والسوريات.

ليفانت: شيار خليل 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!