الوضع المظلم
الأحد ١٦ / نوفمبر / ٢٠٢٥
Logo
كيف نقرأ الولايات المتحدة بين العمدة وطه حسين؟
إبراهيم جلال فضلون

كيف نقرأ الولايات المتحدة بين العمدة وطه حسين؟

د. إبراهيم جلال فضلون

"الأمة التي لا تملك اليوم جوابًا داخليًّا تصبح غدًا مشكوكًا في قيادتها للعالم"، فوهم القوة صار علانية .. لنرى أممٌ صنعها الصيت لكن أسقطها التاريخ من بين سطوره، ففي اللحظة التي ينهار فيها الإغلاق الحكومي الأمريكي ويتجاوز العَرض التدبيري إلى مظهرٍ من مظاهر ضعف الدولة، تبرز الهوية الأمريكية كمرآةٍ تتصدّع. وقديما قال أرسطو "الزمان ينشئ ويلاشي، ففناء كل قوم سبب لكون قوم آخرين"، والحديث عن هوية متجدّدة أو متحولة داخل الولايات المتحدة ليس ترفًا أكاديميًّا، بل ضرورة لفهم ما يجري على أرض الواقع: التحوّلات الديموغرافية، الثقافة المتعدّدة، التقلّبات الحزبية، وصعود أجيالٍ تشكّل دولرة رقمية واقتصادية تغيّر قواعد اللعبة.. لذا انهيار القوى الكبرى ضرورة حتمية ومصير لا محيد عنه، كالنظرة الحديثة وفق معطيات الفعل الأمريكي الماسوني إلى هوية الأميركي ليس فقط كمفهوم نظري، بل كمِقياسٍ يخبرنا عن قدرة الدولة على صوغ نفسها، وعن ثقة المواطنين بمؤسسّاتها.

الأميركي: حين نستحضر مقولات عالمية شهيرة عن الهوية الأميركية، نجد عبارات تؤكد أن "الأميركي" ليس مجرد تعريف سياسي أو جغرافي، بل مشروع يتجدّد: كما قال الأديب الأميركي : "America is another name for opportunity" — وقد تبدّل هذا الوصف إلى "America is another name for complexity"  في وقت لاحق. لكن ما قاله المفكّر الفرنسي عند ملاحظته للديمقراطية الأميركية: "في أميركا يبدأ الإنسان لا بماضٍ بل بعمل"، نجد الفكرة هنا تُعبّر عن هوية الديناميك والاندماج. لنعي من ذلك كلهُ أن الهوية الأميركية كانت — ولا تزال — مشروعًا حيويًا يتحدى الثبات والتقليد. وعندما تتبدّل هذه الهوية إلى "هوية تحت الاختبار"، فإن ذلك ليس فقط تحوّلا ثقافيًا بل إشارة إلى ضعف بنية الدولة. لنعيش حاليًا مشهدًا يعكس أزمة فهم عميقة لطبيعة السياسة المعاصرة، التي تُعيد إنتاج نفس الوهم الذي رافق انتخاب باراك أوباما، ليوجهها عمدة مدينة نيويورك المنتخب، بأربع كلمات للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب: "ارفع صوتك"Turn the volume up ، متعهدا بـ"إطلاق جيل من التغيير" رافضًا سياسات الرئيس.. الذي خذل الأمة الأمريكية منذ سيطرته الشعبوية لكرسي البيت الأبيض: "إذا كان بإمكان أي شخص أن يُظهر لأمة خانها دونالد ترامب كيفية هزيمته، فهي المدينة التي أنجبته".

لابديل عن التعايش السلمي في سورية...

الخبير المُترنح: الخبرة اليوم تعني أن الباحث الأميركي يجب أن يكون متنقّلاً بين الأقاليم، يقارن الولايات، يتابع التغيّرات الديموغرافية والثقافية، ويقرّ بأن توقعَ مسار الولايات المتحدة بكلّ تفاصيله أمرٌ صعبٌ إن لم يكن مستحيلًا. لأن التراجع من لقب "خبير" إلى "باحث" في الشأن الأميركي محبط، وكأننا نعترف بأن مهمة تغطية بلد ضخم مُتعدد الولايات، عرقيّات، أيديولوجيات، مصالح داخلية وخارجية، لا تسمح بحكمة حكمٍ مطلقة مبسّطة. لذا تغيّر الوصف من "خبير" —شاملة ومطلقة — إلى "باحث" —يعترف بحدود المعرفة، يعكس فشل أسلوب التغطية القديم الذي كان يعتقد أن لديه خريطة تعرفها الولايات المتحدة من الألف إلى الياء، بينما الواقع أثبت أن الخريطة تتغيّر.

وهم الهوية: اليوم نشهد عدداً من العوامل التي تدفع إلى إعادة تشكيل الهوية الأمريكانية: التغيّرات الديموغرافية (تزايد نسبة الأميركيين غير البيض، وارتفاع عدد الأميركيين من أصول مهاجرة)، كذلك الثقافة الرقمية التي تربط الأميركيين بمجتمعات عالمية، والتحالفات الحضرية، أدت لظهور شخصيات في سباقٍ سياسيّ بارز يمثل رمزًا لهذا التحول: شاب، مسلم، من أصول متعددة، يخوض الانتخابات في أكبر مدينة أميركية، ويقدّم خطابًا يركّز على العدالة الاجتماعية والاقتصاد الشعبي. ليكون فوز ممداني، موضوعًا إعلاميًا كبيرًا، وبمثابة إنذار بأن الهوية الأميركية لم تعد تُحكم بالأصول فحسب، بل بصُلب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

أنا منكم وإليكم : إن حالة ممداني تستحق الدراسة كرمز للتحولات السياسية والاجتماعية: فقد واجه هجمات سياسية تقليدية، مثل تشويش هويته أو اتهاماته القديمة، لكنه تغلّب عليها بحملة شعبية قوية، دعماً لخوضه معترك السياسة باسم "تغيير النمط الأميركي". قائلاً: "لقد منحتموني تفويضا من أجل التغيير ومن أجل سياسة جديدة"، ليكسب الثقة أكثر بإعلانه أن "نتنياهو تسبب بإبادة جماعية في غزة وإذا دخل نيويورك سأطبق القانون الدولي وأنفذ مذكرة الاعتقال التي تلاحقه". وهذا يبيّن أن المعادلات القديمة للهوية والسلطة لم تعد تعمل بنفس الطريقة، وأن التغيير في الولايات المتحدة لا يأتي فقط من القمة، بل من الحركات الشعبية الحضرية. مشددًا على التزامه بمحاربة معاداة السامية وبناء مدينة "تخدم جميع سكان نيويورك من خلال تعزيز التعاون بين مختلف مجتمعاتها". وقد أظهرت تغطيته الإعلامية كيف أن خطابَه "أنا منكم وإليكم" وجد صدى كبيرًا في أوساط الشباب والمهاجرين والطبقة العاملة.

أميركا للأثرياء: إن سياسة أو شعار كل جديد "أنا منكم وإليكم"، لم تجعل التجربة الأمريكية قائمة على مبدأ المواطنة الدستورية، حيث يُحاسب المسؤول على أدائه لا على مذهبه. فمن الرئيس كينيدي إلى مادلين أولبرايت، ومن هنري كيسنجر إلى روث غينسبيرغ، أثبت التاريخ السياسي الأمريكي أن الكفاءة هي معيار الصعود، لا الدين ولا الأصل.. فهناك تناقض في الخطاب السياسي الأميركي يُستحق التحليل: إذ في حين تعلن القيادة الأميركية عن قيم مثل "الفرصة"، "العدالة"، "الهوية الوطنية"، نجد على أرض الواقع أفعالاً تتعارض مع تلك المفاهيم — من إغلاق حكومي يوقف الخدمات الأساسية، إلى تقليص الدعم الاجتماعي، إلى خطاب متشدّد تجاه المهاجرين والآخرين. رغم فوز ترمب على مبدأ الشعبوية لا الكفاءة، فالقاعدة واضحة: ولاؤك للدستور، وبرنامجك للمواطنين.. هذا التناقض يضعف الثقة العامة ويُظهِر الهوية الأميركية ليس باعتبارها مشروعًا ثابتًا بل هاجسًا دائمًا. هنا تُطرح أسئلة: كيف يُصدّق المواطن أن "أميركا تعمل" حين تُوقِف هي نفسها الأجهزة الحكومية؟ كيف يُصدّق الآخرون أن أميركا تقود العالم حين لا تستطيع حكومتها الاتفاق على تمويلٍ بسيط؟

شيوعية ممداني: هذا يقودنا إلى فشل الاتهامات القديمة: ففي حالة ممداني، لو جرى اتهامه بـ"الشيوعية" أو بـ"التهديد للأمن الأميركي" فإن هذه التهم لم تعد تعمل بنفس الوضوح كما في الحرب الباردة. فالمشهد الأميركي اليوم تغيّر، والسياق الدولي أيضاً. استخدام تهم مثل الشيوعية أصبح أقل مصداقية، وهو ما يبيّن أن أدوات الخطاب والتشويه السياسي التقليدية باتت أقل فعالية أمام جمهورٍ جديد واعٍ ومتعدّد الخلفيات. وهذا الفشل ليس فقط للاستمطار السياسي بل دليل على أن الدولة الأميركية نفسها تواجه أزمة في أدواتها التعبيرية والسيطورية.

الأديب والخطر: مفهوم "الخطر" عند الأديب المصري، "طه حسين" ليس بالمعنى الضَارّ الواضح فحسب، بل بما يحمله من معنى "الأهمية الكبرى" أو "تغيّر المصائر". حين نطبق هذا المفهوم على المشهد الأميركي، نجد أن نيويورك تُعد "خطرًا" بمعناها الحقيقي: مدينة تفرز اتجاهات، موجات فكر، ضغوطًا حضرية، تجارب طبقية. التحولات في أحياء مثل هارلم، من عزلة عرقية إلى أحياء ميسورة، تعبّر عن هذا الخطر الإيجابي — لكنها أيضاً تُذكّر بأن الهوية الأميركية تتعرّض لتبدّل سريع، وأن النظام الأميركي ليس محصناً من إعادة تشكيل جذري.

نيويوركياً: نيويورك كمسرح للتأثير – ليس فقط محلياً، بل عالمياً – تشكّل نقطة التقاء للغات، ثقافات، طبقات، أفكار. فكونك نيويوركياً يعني أنك تعرضت لميولات حضرية، تفاعلت مع التنوع، وتحملت وطأة الدولية، بينما أميركيٌ من ولاية أقل تنوّعاً قد يربط هويته أكثر بالتراث المحلي أو الديمومة. هذا الفارق بين أن تكون نيويوركياً وبين أن تكون أميركياً يعكس تبايناً في الهوية: الأمريكية ككل تسعى للتماسك الوطني، لكن نيويورك تنظر للأمام، تتقبّل التعدد، وتختبر هوية جديدة أسرع. ومن هنا تأتي الخطورة — أي التأثير الواسع لما يُجرى في نيويورك على الذهنية الأميركية والمشهد العالمي.

هوية الوهم: التميّز بين كونك نيويوركياً وكونك أميركياً يكشف أن الهوية ليست واحدة موحّدة، بل متعدّدة الطبقات: منها هوية المدينة، هوية الولاية، هوية الولايات المتحدة. شخصٌ في نيويورك قد يرى الاقتصاد من منظور سوق عالمي، التنوع من منظور يومي، التغيير من منظور حضري؛ بينما أميركيٌ في ولاية وسطى قد يرى التغيير نظرياً، لكن لا يلمسه بنفس العمق. وهذا التباين يولّد نوعاً من التوتر الداخلي داخل الهوية الوطنية، وهو ما يضع المسؤولين الأميركيين أمام تحدٍّ أكبر: كيف تدمج هذه الهويات الجزئية في سردٍ وطني يشعر به الجميع؟

ختاماً: "حين تفقد الدولة القدرة على معرفة ذاتها، تبدأ الخسارة من الداخل قبل أن تصل إلى الخارج." فمحاولة التنبّؤ بالمستقبل الأميركي أصبحت أصعب من أي وقت مضى. التحوّلات الديموغرافية، التكنولوجيا، المنافسة الدولية، الأزمات الاقتصادية — كلها عوامل تجعل رسم مسار ثابت للأمة مهنا نبوءة بخسائرها. لذلك، ما كان يُقال بخبراء الشؤون الأميركية في الماضي لم يعد كافياً. نحن بحاجة إلى باحثين ينصتون للحقائق، لا لافتراضات. وفي ظل هذا الانكفاء على الذات، والانقسام السياسي، والضعف الداخلي، تبدأ مرحلة يُطرح فيها السؤال ليس "إلى أيّ حدّ ستبقى الولايات المتحدة القوى العظمى؟" بل "هل ما زالت تستحق أن تُعدّها القوى العظمى؟".

في هذا الزمن المتغيّر، لا يكفي أن نقرأ الولايات المتحدة كما كانت، بل علينا أن نقرأها كما أصبحت: مجتمعاً يتحول، هوية تُعاد صياغتها، وصورة عالمية تُعاد بناءها. ومسارها اليوم ليس مضموناً، بل محل ترقّب.

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!