الوضع المظلم
الأحد ١٦ / نوفمبر / ٢٠٢٥
Logo
أمريكا بين فخّ الاستراتيجية وضياع البديل في سوريا...
محمود عباس

أمريكا بين فخّ الاستراتيجية وضياع البديل في سوريا...

د. محمود عباس

 

أخطأت الولايات المتحدة الأمريكية (الجناح الراضخ للدولة العميقة العصرية) في إدارة الملف السوري، حين تجاهلت تعويم القضية الكوردية، ولم تمنح قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المكانة التي تؤهلها لتكون البديل الشرعي والوحيد عن وزارة الدفاع المنهارة بعد هروب بشار الأسد، لتصبح بذلك البوابة الأكثر أمانًا لعبور سوريا نحو الاستقرار والبناء ومواجهة الإرهاب بكل أشكاله، ورجحت كفة الاستثمارات مع دول الخليج والمصالح الاقتصادية على إستراتيجية الإمبراطورية الكلاسيكية.

إنّه الخطأ الذي تحاول واشنطن اليوم تصحيحه بأساليب ملتوية، منها ربما عبر ممثلها توماس باراك، منذ اللحظة التي وطأت فيها قدما أحمد الشرع، رئيس الحكومة السورية الانتقالية، أرض البيت الأبيض، في زيارة لم تُجدِ نفعًا رغم رفع صفة الإرهاب عنه قبلها بيومين بصفقة دولية مريبة في مجلس الأمن، فظله الطويل من الجرائم، من مجازر الساحل والدروز والمسيحيين إلى التواطؤ ضد الكورد، لا يزال يلاحقه حتى بوابات واشنطن.

وإزاء هذا المأزق، حاولت الإدارة الأمريكية استنساخ تجربة اتفاقية 10 آذار الشهيرة، حين فُرضت البنود على قيادة قسد، والحكومة الانتقالية السابقة لم يُنفّذ منها شيء، فجاءت الخطة الجديدة على شكل خدعة سياسية بوجه دبلوماسي، تبدو كما لو أنها وُضعت في دهاليز الـ CIA أكثر من أروقة الكونغرس، واشتركت فيها جهات متعددة، بما يرضي معظم القوى باستثناء المكوّنات السورية الفاعلة، وفي مقدمتها قسد والإدارة الذاتية والحراك الكوردي القومي.

ولتنفيذ هذه اللعبة، جرى تسخير السيدة ياسمين معمو وزوجها طارق نعمو، من الجالية الكوردية الأمريكية، وأصولهما من عفرين، للقيام بالمهمة، باعتبار انتمائهما القومي الهشّ مؤهلًا لاستخدامهما في ترويج الصورة المطلوبة.

مشهد سوري مميز في واشنطن...

ففي البداية، جاءت تصريحات ياسمين معمو نقية وطنية المضمون وكوردية الانتماء، فأثارت اهتمامًا واسعًا، إلى أن خرج زوجها لاحقًا بتصريحات متهورة أفسدت وقع كلمتها وأحدثت شرخًا وطنيًا مؤلمًا في الوعي السوري، وسقط في مستنقع الخيانة القومية والدونية الثقافية، حين قدّم الولاء للسلطة تحت صيغة الوطن السوري على حساب الانتماء.

ورغم ما تملكه اللوبي التركي والقطري من القوة في أمريكا، وحضور دبلوماسي في أروقة واشنطن، فإنها لم تكن قادرة على إنجاز ما عجزت عنه إدارة الرئيس دونالد ترامب، ومع ذلك، نجحت ياسمين معمو، وبشكل مريب، في إقناع عضو الكونغرس براين ماست بتعليق قانون قيصر لستة أشهر في الليلة السابقة للقاء الشرع، وكأنّها هدية للشعب السوري تمهّد لقبول الإملاءات الأمريكية على الحكومة الانتقالية، وفي مقدمتها الانضمام إلى التحالف الدولي باسم محاربة الإرهاب، لتبييض صفحة رجلٍ كانت يده في معظم المذابح.

ولم يكن من المصادفة أن هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي، وصل إلى واشنطن في اليوم السابق لتلك التحركات، فكلّ الخيوط تشير إلى تنسيق تركي–أمريكي خفي استهدف ضرب المكوّن الكوردي، عبر تظهير ياسمين وزوجها كصوتٍ “وطنيٍّ كورديٍّ” مؤيدٍ لسوريا الموحّدة، وتحييد دور قسد باعتبارها لا تمثّل جميع الكورد، مع إيهام الرأي العام بوجود بدائل "معتدلة" أكثر انسجامًا مع الرؤية الأمريكية–التركية المشتركة.

إنّ اختيار الثنائي لم يكن عبثيًا؛ فقد أرادت القوى التي اشتركت في العملية، وهي عدة أطراف، بينهم توماس باراك، وهاكان فيدان، خلالهما إيصال رسالتين:

الأولى، أن تعليق قانون قيصر ليس تنازلًا سياسيًا، بل "بادرة إنسانية" تجاه الشعب السوري،

والثانية، أن المكوّن الكوردي ليس كتلة واحدة، وأن ثمة “كوردًا وطنيين” يقفون في صف الحكومة الانتقالية، في تماهٍ واضح مع الرواية التركية والبعثية القديمة، والتكفيرية الحديثة.

لكنّ هذه اللعبة، وإن بدت متقنة في ظاهرها، تكشّفت سريعًا. فالممثل الأمريكي توماس باراك الذي حاول مجاملة تركيا والتضحية بالمكاسب الكوردية، بدأ يواجه موجة اعتراض داخل الكونغرس، يقودها عدد من الأعضاء البارزين في مقدمتهم براين ماست الذي وافق على تعليق قانون قيصر، وليندسي غراهام، الذين حذّروا من خطورة تجاهل التمثيل الكوردي الحقيقي في سوريا المستقبل، وأكدوا أن الاستقرار لا يُبنى على إقصاء من حارب الإرهاب نيابةً عن العالم.

وهكذا، وبعدما بدت واشنطن (الجناح الاقتصادي من إدارة ترامب) في طريقها لارتكاب الخطيئة ذاتها من جديد، أخذت ملامح التحول تظهر، إذ بدأت الدوائر الأمريكية تميل مجددًا نحو تعويم المكوّن الكوردي كشريك سياسي رئيسي، والاقتناع بأن الحل في سوريا لن يكون إلا عبر نظام لامركزي فيدرالي يضمن الحقوق ويمنع عودة الاستبداد تحت أي اسم، والمتوقع أن يظهر هذا على الإعلام في الفترة القادمة، حتى ولو كان تحت صيغ ومصطلحات مختلفة.

في النهاية، يتّضح أن جوهر الصراع في سوريا لم يكن يومًا بين مكوّن وآخر، بل بين من يملك الوعي بالانتماء الإنساني والوطني، وبين من تاه في متاهة الشعارات الفارغة التي أنجبت الاستبداد والتبعية. فالوطن لا يقوم على نكران الهويات، بل على الاعتراف بها، ولا يبنى على وحدة القهر، بل على تعددية الحرية. ومثلما تعكسه تصريحات الجنرال مظلوم عبدي حول زيارة أحمد الشرع إلى سوريا، إن الهوية الكوردية ليست نقيضًا لسوريا، بل ضمانتها الأخلاقية، لأن الأمم لا تُقاس بمدى تجانسها، بل بقدرتها على احتضان اختلافها.

لهذا نود أن نذكر بعض الشخصيات الكوردية التي تنهل من ثقافة الأنظمة الاستبدادية، إنّ من ينكر أصله لا يصنع وطنًا، ومن يعرف تاريخه لا يخون المستقبل؛ فالوطن لا يُؤسس على النسيان، بل على الوعي، والوعي هو أول أشكال التحرر.

 

 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!