-
من وراثة الأسد إلى تسويق الشرع… التاريخ يعيد نفسه

لم تتبدّل القصة، تبدّل الممثل فقط. في عام 2000، جرى توريث سوريا كما تُورَّث أملاك العائلة عبر دستور يُطوى، وبرلمان يُستدعى للتصفيق، ووريث يُقدَّم للعالم باعتباره "انتقالاً سلساً". واليوم، بعد ربع قرن، يُعاد المشهد بوقاحةٍ أكبر.. قائد فصيل جهادي يُعادةُ صِياغته في معامل السياسة الدولية ليخرج بربطة عنق وبيان مهامّ.
بين الأمس واليوم، أربعة مفاتيح دولية "أميركا وفرنسا وتركيا وقطر" أدّت الأدوار نفسها تقريباً، بالأدوات نفسها تقريباً، وبالغاية نفسها حصراً وهي إنتاج سلطةٍ "وظيفية" فوق شعبٍ مغيّب.
المسار الأول (2000) بدأ بعنوانٍ خادع "طبيب شابّ وإصلاحٍ قادم". أميركا وضعت الشرط التأسيسي بشرعية تُشترى بوظائف وشروط محددة تبدأ من أمنٌ لإسرائيل، وحدٌّ للانفلات الإقليمي، وإدارةٌ محسوبة لملفات لبنان والعراق.
فرنسا أمّنت الغسيل البروتوكولي بحضور رمزي لشيراك عند الجنازة، ثم استقبال يرفع الوريث إلى رتبة "شريكٍ محترم" في المخيال الأوروبي.
أما تركيا فقد حوّلت الوريث إلى عقدة أمان حدوديّة بشرط الإلتزام باتفاق أضنة، وسداد شرايين الدعم للـPKK، وفتح لاقتصادٍ عابرٍ للحدود.
ومن جهتها قطر تولّت الهندسة الناعمة من خلال مالٌ وإعلامٌ واستثمارات تروي حكاية “الانفتاح” وتُسكت سؤال الشرعية. بهذا الترتيب المتقن (أمن، بروتوكول، اقتصاد، سرديّة) أُغلق القوس على شعبٍ لم يُسأل أصلاً.
المسار الثاني "اليوم" يُقلّد النظام ذاته مع تبديل الأقنعة. أميركا تباشر من النقطة نفسها عبر تحويل الخصم إلى “مزوّد خدمة” تتلخص بمكافحة الإرهاب، وضبط الجنوب، وإقفال قنوات الفوضى ما دام ذلك يطمئن إسرائيل.
وفرنسا تُعيد إخراج المشهد ذاته .. أبواب القصور تُفتح لتصنع صورة “رئيسٍ قابلٍ للتعامل”، وتؤمِّن لتأثيرها موطئ قدم في ملفي الإعمار واللاجئين.
وايضا تركيا اللاعب الأكثر تأثيراً تُعيد تدوير معادلة الأمان .. خصمٌ للأكراد، حارسٌ للحدود، وصمامُ تدفّقٍ اقتصادي.
وتعيد قطر نفس السيناريو، كعادتها، وتعزف على وتر رأس المال والإعلام بتعهّدات الإعمار، ومنصّات خطاب، وقصة جديدة تُباع بعنوان "البراغماتي المعتدل".
لا جديد في العُدّة، الأمن أولاً، فالبروتوكول، فالاقتصاد، فالسرد. الجديد الوحيد أن البطل هذه المرّة خرج من معسكرٍ آخر، لكن على المسرح نفسه وللجمهور الخارجي نفسه.
هكذا تتجاور روايتان وتذوب حدودهما "الطبيب الإصلاحي" و"الجهادي البراغماتي". كلاهما لافتةٌ تسويقية تؤجِّل السؤال الأصلي .. من يمنح التفويض؟ حين يُستبدَل مبدأ السيادة بمبدأ الخدمة، تُصبح الشرعية عقداً ثنائياً بين القويّ الخارجيّ ووكيله المحليّ، ويُستبعد الطرف الوحيد الذي تُصاغ باسمه كلّ البيانات "الشعب".
في الحالين، أُقصي السوريون عن تعريف مصالحهم، واستُخدمت آلامهم كممرّ إجباري لصناعة “استقرارٍ” مقاسه خارج الحدود.
ليس في الأمر التباسٌ نظري. هناك بنيةٌ ثابتة لإنتاج السلطة في سوريا حين تتكفّل بها تلك العواصم:
من خلال تأمين مبرّر أمنيّ يعلو على النقاش تختصر بأمن إسرائيل بالأمس، ومكافحة الإرهاب وضبط الجنوب اليوم، لتُصبح أيّ صيغة حكم "ضرورية”" مهما نقصت شرعيتها.
وتبييض بروتوكوليّ يُلبس السلطة ثوب "القبول الدولي" جنازات واستقبالات بالأمس، قمم وخُطب وصور اليوم.
ويأتي دور التطعيم اقتصاديّ ليَعِدُ الناس بالخبز مقابل الصمت من خلال شراكات ومصارف واستثمارات بالأمس، وصناديق إعمار ووعود بنى تحتية اليوم.
وإخراج بحبكةٌ إعلامية تُعيد تسمية الشيء بغير اسمه في الأمس "انفتاح" لسلطةٍ موروثة، و"اعتدال" لسلطة أمر واقع اليوم.
ومثل كلّ هندسةٍ فوقيّة، يتجاهل هذا البناء شرطه الأخلاقي والسياسي الأوّل وهو أن الشرعية لا تُفَوَّض من الخارج ولا تُستعار من بروتوكول، بل تُستمدّ من مجتمعٍ يختار ويحاسب. حين يُنقل مصدر الشرعية من الشعب إلى "الوظيفة"، تُصبح سوريا ساحةَ عقود محددة بوظيفة أميركية لضبط الإقليم، ووظيفة فرنسية للنفوذ السياسي والاقتصادي، ووظيفة أخرى تركية لحدودٍ مطمئنة وورقة لاجئين، إضافة إلى وظيفة قطرية لحيّزٍ مالي/إعلاميّ يضمن موضع قدم.
في هذا السوق، المواطن السوري مجهولُ الوجه والاسم؛ هو "مستفيد محتمل" في أوراق المانحين، و"مُهدَّدٌ محتمل" في مذكّرات الأمن، لكنه ليس صاحب القرار في أيّ فصل من الفصول.
التاريخ هنا لا "يُعيد نفسه" عبثاً؛ إنّه يُكرّر الوصفة ذاتها لأن أحداً لم يكسر قالبها. في 2000، سُحبت الدولة من المجتمع تحت عنوان الاستقرار. في 2025، يُسحَب المجتمع من الدولة تحت عنوان مكافحة الفوضى.
في المرتين، قُدِّم للشعب بديلٌ قاسٍ: إمّا سلطةٌ بلا شرعية، أو فوضى بلا أفق. والحقيقة أن الخيار الذي لم يُمنح أصلاً هو الخيار الوحيد القادر على كسر الحلقة: عقدٌ وطنيّ يحدّد وظيفة الدولة بقرار الشعب، لا وظيفة الشعب بإملاء الدولة.
لا يكفي أن نسمّي الأشياء بأسمائها. يلزم أن نكسر التسلسل الذي يَحكم إنتاج السلطة والذي يتشكل من أمنٌ يُستَخدم لابتلاع السياسة، وبروتوكولٌ يُستَخدم لستر العُري، واقتصادٌ يُستَخدم لشراء الوقت، وإعلامٌ يُستَخدم لتغيير القواميس. عندها فقط يُصبح الخارج ملحقًا بقرار الداخل، لا العكس.
وما لم يحدث ذلك، سنظلّ نرى على الخشبة بطلاً جديداً كلّ عقدٍ من الزمن، فيما يبقى النصّ هو نفسه: شرعيةٌ بلا شعب… ومصالحٌ تُدار على أنقاضه.
شادي عادل الخش
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!