الوضع المظلم
الجمعة ١٩ / ديسمبر / ٢٠٢٥
Logo
النظام الإيراني: من صراع الغنائم إلى حرب البقاء
أحمد سليم

منذ قيام نظام ولاية الفقيه قبل أكثر من أربعة عقود، لم تُعرف إيران كدولة مستقرة. الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي رافقت هذا النظام منذ أيامه الأولى: حروب، عقوبات، صراعات داخلية، انتفاضات شعبية، وانهيارات متكررة للعملة. لكن مراقبة ما يجري اليوم في الداخل الإيراني تكشف عن نوع مختلف من الأزمات؛ نوع لا يقتصر على تدهور المؤشرات الاقتصادية أو تزايد الاحتجاجات، بل يطال البنية العميقة للنظام نفسه، إلى حدّ يمكن معه الحديث عن «أزمة بقاء» لا مجرد أزمة إدارة. إن هذا التطوّر لا يعني الإيرانيين وحدهم فقط، بل ينعكس مباشرة على بلدان الجوار، وفي مقدمتها العراق الذي دفع ثمناً باهظاً لسياسات طهران خلال العقدين الماضيين.

من الأزمات البيئية إلى حرب البقاء ...

فعلى المستويين المعيشي والبيئي، فإن الصورة داخل إيران قاتمة كما لم تكن من قبل. أزمات المياه تضرب مناطق واسعة من البلاد، بحيرات وأنهار تجفّ، والزراعة تنهار في أقاليم كانت تاريخياً خزائن تموين لشعب لإيران. في المدن الكبرى، يختنق الناس تحت سحب التلوّث، حتى صار تعطيل المدارس والدوائر العامة بسبب الهواء الملوث حدثاً معتاداً. في الوقت نفسه، تأكلت القدرة الشرائية للأغلبية الساحقة من الإيرانيين إلى حدّ باتت فيه الطبقة الوسطى، التي كانت محور توازن واستقرار، على مشارف الفاقة. أننا من خلال موقعنا في العراق، نعرف جيداً كيف يمكن لمثل هذه الأزمات في دولة مجاورة بحجم إيران أن ترتد سلباً على اقتصادنا والبنية الاجتماعية وذلك يتضح جلياً كملف الأنهار العابرة للحدود، إلى التهريب عبر المنافذ غير الرسمية، وصولاً إلى هجرة اليد العاملة والطبقة المثقفة والرساميل.

اعتاد الشعب الإيراني على أزمات مشابهة في في تأريخه القريب. لكن الجديد في الأمر هو في انتقال هذه الأزمات من مستوى «شكوى المجتمع» السلبية إلى مستوى يتسم بالعنف عبر «صراع رأس النظام ذاته». في السابق، كان النظام يظهر ككتلة متماسكة في مواجهة الأزمات، لكنه اليوم يعجز عن إتيان ذلك فالانقسامات باتت علنية بين رموزه وأركانه حول تعريف المشكلة وطريقة الخروج منها. الذي أدى إلى تهشم صورته كـ«نموذج صمود» أمام الغرب في أعين مقلديه وأتباعه في بغداد والجوار الإقليمي. نظام اليوم يعاني انقساماً داخلياً حاداً حول الأسئلة تتعلق بوجوده: كيف يمكنه البقاء؟ بأي ثمن؟ وعلى حساب من؟

ظهر علي خامنئي في خطابه الأخير بمناسبة «يوم البسيج» محاولاً رسم صورة القوة والصمود، كان خطاباً مملاً ومتناقضاً وكشف عن قلق عميق ومخاوف من تأكل أدوات القمع الشعبي مثل البسيج، وأيضاً عن الهوة بين الخطاب الثوري والممارسة الواقعية. أن الدفاع المستميت عن البسيج بوصفه «ثروة لا يجب التفريط بها»، والنفي الغاضب لأي حديث عن رسالة إلى دونالد ترامب عبر وساطة سعودية، يعكسان هاجس فقدان السيطرة على القاعدة والتي لن تعد تصدق مما يقال عبر الرواية الرسمية وأحاديث المرشد. وفي الجانب المقابل، يظهر الرئيس الأسبق حسن روحاني مناكفاً المرشد، وإن بشكل غير مباشر. عندما يقول إنّ الحرب الأخيرة كانت «قابلة للاجتناب»، وإن فشل العودة إلى الاتفاق النووي كان خطأ استراتيجياً، وهو هنا لا يقدم رأياً تقنياً فحسب، بل يحمل رأس النظام مسؤولية المسار الذي قاد إلى المواجهة. وعندما يتحدث عن تأكل الشرعية ويربط قدرة المجتمع على الصمود بمستوى رضا الناس عن النظام، فأنه عملياً يقرّ بأنّ هذه الشرعية لم تعد كما كانت، وأنّ المقاربة الأمنية العسكرية لم تعد كافية لتأجيل الانفجار.

إلى جانب ذلك، يأتي صوت اقتصادي مهني مثل مسعود نيلي ليقول إنّ المسألة تجاوزت حدود لعبة التوازن بين العقوبات والالتفاف عليها. فحين يصرح بأن السنوات المقبلة ستكون حاسمة لمصير «البقاء أو الموت»، وأنّ 95% من وقت المسؤولين يُستهلك في حرب جانبية أبين أجنحة النظام ذاته انه بذلك ينزع ورقة التوت عن نظام بات ينخر نفسه من الداخل. إن الاقتصاد ليس مجرد أرقام وحسابات فقط، بل ساحة كبرى لصراع مراكز القوى على حساب مصالح المجتمع والوطن. إن المصالح الاقتصادية للعراق تتشابك مع المصالح الاقتصادية الإيرانية عبر التجارة والطاقة والمنافذ الحدودية، وأي اختلال كبير في الاقتصاد الإيراني سيؤدي حتماً على إضرار السوق العراقية واستقرار سعر العملة والتهريب والبطالة.

ما الذي يجعل هذه اللحظة مختلفة إذاً؟

أولاً، أنّ الأزمات المتعددة - بيئية، اقتصادية، اجتماعية، سياسية - تتقاطع اليوم في نقطة واحدة وتتشابك ولم يعد النظام. قادراً على فصل أحدها عن الآخر: فمثلاً جفاف المياه، مرتبط بسوء الإدارة وبالفساد وبالعقوبات؛ تلوّث الهواء مرتبط بغياب التخطيط وبالاقتصاد الريعي؛ انهيار القدرة الشرائية مرتبط بتوجيه الموارد إلى مغامرات خارجية وحروب بالوكالة؛ والانقسام داخل النخبة مرتبط بعجز النظام عن حسم خياراته بين التصعيد والتسوية. في العراق لمسنا هذه «المغامرات» في شكل دعم مباشر لفصائل مسلحة، وتوجيه شعارات «المقاومة» بما يخدم مصلحة طهران قبل مصلحة بغداد.

ثانياً، أنّ الصراع داخل النظام لم يعد يدور فقط حول اقتسام الغنائم، بل حول «استراتيجية البقاء» نفسها. فجزء من نخب النظام، كما يعبر عنه روحاني ونيلي وبعض الأصوات الأخرى، يرى أن إنقاذ النظام يمر عبر تراجع تكتيكي: تسوية مع الغرب، عودة إلى الاتفاق النووي، تخفيف القبضة الأمنية، محاولة استعادة بعض الشرعية المفقودة. لكن هناك الجناح المتشدّد، المتمثل بـ مجتبى خامنئي وأجهزة الحرس الثوري وبعض مراكز النفوذ، يعتقد أن أي تسوية من هذا النوع ستفتح الباب لانتفاضة شعبية عارمة لا يمكن السيطرة عليها، وأنّ الحفاظ على النظام يقتضي المضي في القمع والتصعيد حتى النهاية. هذا الجناح هو ذاته الذي راهن طويلاً على توسيع نفوذ الميليشيات في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ما يجعل من أي تغيير في توازناته الداخلية قضية ذات أبعاد إقليمية مباشرة.

ثالثاً، أنّ المجتمع الإيراني نفسه لم يعد هو نفسه كما كان قبل عشرين عاماً. تجارب الانتفاضات المتكررة، من 2009 إلى 2017 و 2019 ثم 2022 بعد مقتل مهسا أميني، خلقت ثقافة احتجاج جديدة، وشبكات اجتماعية أكثر جرأة، وجيلاً شاباً يؤمن غالباً بالحلول الراديكالية ولا يركن لحلول ترقيعية. هذا الجيل يرى في كل صراع داخل القمة فرصة لزعزعة النظام، لا مناسبة للاصطفاف خلف أحد أجنحته. وكذا هو الحال بالنسبة للمجتمعات العربية التي عاشت ثورات وانتفاضات، ومنها العراق في 2019، الشعوب أصبحت أكثر وعياً وحماسه وتقرأ جيداً تناقضات السلطة بانتظار اللحظة المناسبة.

من زاوية عراقية، يكتسب هذا التحوّل في طبيعة الأزمة الإيرانية أهمية خاصة. فالعراق كان، ولا يزال، الساحة الأهم لتمدد نفوذ طهران خارج حدودها عبر الحشد الشعبي، عبر أحزاب مرتبطة بمكتب المرشد، وعبر شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية والأمنية. حين يدخل النظام الإيراني مرحلة «حرب البقاء»، يصبح هذا النفوذ نفسه موضع سؤال: هل سيستخدم الحرس الثوري وكل أدواته في العراق لتعويض ضعفه في الداخل؟ أم أن تراجع القدرة المالية والسياسية سيقود تدريجياً إلى انكماش هذا النفوذ وفتح الباب أمام توازنات جديدة داخل العراق نفسه؟

في ظل هذه العناصر، تصبح الأزمة الحالية أكثر شبهاً بمرحلة احتضار بطيء لنظام فقد قدرته على إنتاج حلول حقيقية. فكل جناح يحاول أن يقدم وصفة إنقاذ تلائمه هو ولكن الحقيقة ان الأرضية التي يقف عليها الجميع تهتز تحت ضغط الأزمات المتراكمة. وعندما يتحول الماء والهواء والغذاء والعملة والعمل إلى موضوعات نزاع بين أجنحة السلطة، وعندما تصبح «الشرعية» و«البقاء» موضوع نقاش علني بين رموز النظام، يمكن القول

إن إيران دخلت مرحلة نوعية جديدة، سيكون لنتائجها المباشرة ارتدادات على جوارها القريب، وفي مقدمته العراق.

هذه المرحلة لا تعني بالضرورة سقوطاً وشيكاً غداً أو بعد غد، لكنها تعني أن قدرة النظام على تكرار دورات القمع-التهدئة كما في الماضي تتقلّص يوماً بعد يوم. وكلما اقتربت لحظة الانفجار الاجتماعي التالية، كلما احتدمت حرب البقاء في قمة هرم السلطة. بالنسبة لنا نحن هنا كعراقيين، قد يكون من الحكمة متابعة هذه الحرب بدقة، ليس من باب الشماتة، بل من باب الاستعداد لمرحلة ما بعد نفوذ ولاية الفقيه والخلاص من نيره، لبناء علاقة طبيعية مستقبلية مع شعب إيراني جارٍ ومثقف يتوق للبناء والحرية والسلام.

ليفانت: أحمد سليم، كاتب وباحث عراقي في الشؤون الإقليمية والشأن الإيراني

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!