-
طوفان شرم الشيخ... إلى أين؟
"الهدوءُ الذي نرتعش من رقته قد يكون بدايةُ سلامٍ طويلٍ — أو مجرد لحظةٍ تُطوى سريعًا في سجلِّ التاريخ". فحينما تُرفعُ الأعلام وتُلتقط صورُ الوفود ابتهاجًا، يُقال إنَّ "فجرًا تاريخيًا لشرقٍ أوسطٍ جديد" قد بزغت كلماتًه الكبيرة، ويظل السؤال الأصدق: هل الطوفان الدبلوماسي في شرم الشيخ يَصنع سلامًا دائمًا أم يمرُّ كعاصفةٍ تترك بعدَها خرابًا أعظم أو سلامًا هشًّا؟.
في يومٍ حاسمٍ شهد تبادُل آخر الأسرى وتوقيع مبادراتٍ ومذكرات على هامش قمةٍ دوليةٍ في منتجع البحر الأحمر، اجتمع قادةٌ من أكثر من عشرين دولة برئاسةٍ مصرية-أميركية، عقب خطابٍ مثيرٍ للرئيس الأميركي في الكنيست، ضمن مسعى لتهيئة أرضيةٍ لتهدئةٍ طويلة الأمدٍ وإنعاشٍ إنساني لقطاع غزة. المشهد هذا مدعوم بتبادلٍ فعلي للأسرى وتعهّداتٍ دولية للإعمار ووجود محاولاتٍ لتشكيل قوةٍ دوليةٍ متنقلةٍ أو إشرافٍ أمميٍّ على ترتيبات الأمن والإدارة.
لكنَّ ما يجري ليس صفقةً بسيطة تُقرأ من فقراتٍ الجلسات البراقة؛ لكنها خريطةُ لمراحلٍ مُعقّدة: (تبادلٌ أوليّ للأسرى، ثمّ فصلٌ لمسألة السلاح والحوكمة، ثم إدارةٌ مرحلية لقطاعٍ دُمِّرَت بنيتهُ التحتية وزُوِّدَت أنفاقه بأساطيرٍ عن صمودٍ قُوامُهُ الأسئلةُ السياسية والتقنية). وهناك من يرفعُ شعارَ "نزع السلاح شرطٌ أساسي"؛ وهناك من يُقرُّ بوجود تفاهمٍ على ملاحقٍ، قد تُحفظُ سرًّا لإتمام المصالح الكبرى. كُلُها فُجواتُ في التفاصيل هي نفسها التي تُولّدُ مخاطِرَ العودةِ إلى العنف، أو على الأقلْ لحظاتِ تجمّدٍ تُستثمَرُ داخليًا وسياسيًا بغياب الرأي العام العالمي فقط ساسة.. وأولى إشارات الهشاشة فيها: غيابُ بعض اللاعبين الكبار عن منصة التوقيع، وظهورُ حساباتٍ داخلية إسرائيلية قد تُعاكسُ تنفيذَ مراحلٍ لاحقةٍ إذا شعر رئيسُ الحكومة أن ثمنَ المضي "مُرتفعٌ" داخليًا. فإعلانُ بعض القادة المحليين الاستعدادَ لمواصلة الضغط العسكريّ، أو اشتراطاتٍ تُقدَّم قبل الانتقال إلى مرحلةٍ جديدة، كلُّها تجعلُ المشهدَ مليئًا بالمتغيرات. كغياب نتنياهو عن القمة كان مؤشرًا لا ينبغي تجاهله.
اقتصاديًا وإنسانيًا، فإنّ "إعادة الإعمار" التي تُطرحُ تبدو بحجمِ مُهمةٍ موازيةٍ للحل السياسي: أرقامٌ أوليةٌ تتحدث عن عشراتِ ملياراتِ الدولارات لإعادةِ إحياء غزة؛ وهذه أموالٌ لا بدّ أن تُؤمَّنَ بشفافيةٍ وضماناتٍ لا تتحقق دون ترتيباتٍ دوليةٍ واضحةٍ وإشرافٍ موثوق. غيابُ مثل هذه الآلياتِ قد يجعلُ التمويلَ أداةً للضغطِ السياسي أو مصدرَ فسادٍ يقوّضُ الهدفَ نفسه.
إذن: السيناريوهات المتوقعة ستكون من بين ثلاث؟
السيناريو المتفائل (سلام متدرّج مستدام): تنفيذٌ مُتتابع لمراحل الاتفاق: ضمان تبادلٍ شامل للأسرى، إجراءات ملموسة لنزع السلاح (بصيغةٍ مراقبةٍ ومرحليةٍ تحت إشرافٍ عربي/أممي)، دخول قوةٍ دوليةِ حفظِ سلامٍ محدودةِ المدى، مؤتمر إعمارٍ شفافٍ بقيادةٍ مشروعةٍ وضمن ضوابطٍ أممية. يتحقق توازنٌ بين الضمانات الأمنية لإسرائيل والشرعية السياسية للفلسطينيين. هذا المسار يتطلب إرادةً سياسيةً حقيقيةً ومرونةٍ داخليةٍ لدى الطرفين والضامنين.
السيناريو الوسيط (هدنةٌ طويلةٌ لكنها هشة): هدنةٌ مدعومةٌ دوليًا تُخفّفُ من الحربِ والقتلِ لكنها تتركُ البنيةَ السياسيةَ لأجلٍ لاحق؛ إعادةُ إعمارٍ محدودةٍ مع تسييرٍ بيروقراطيٍّ يجعلُ الملفات الرئيسية معلّقةً إلى أجلٍ غير معلوم، ما يترك احتمالَ تجددِ العنف قائمًا.
السيناريو المتشائم (عودةُ القتال): إخفاقُ تنفيذِ تعهداتٍ أساسية أو استفزازاتٌ تبعثُ على الرد، أو تقسيمٌ داخليٌّ في إسرائيل أو حماس يؤدي إلى انهيارٍ مرحلي للخطة ويعيدُ الجميعَ إلى مربّع الحرب. هذا الاحتمال لا يزال قائمًا ما دامت العقباتُ السياسية والعمليةٌ غير محصورةٍ وواضحةٍ
فما هو المطلوب عمليًا لإنجاح مسارٍ يتحوّل إلى سلام حقيقي؟ فقط نقاطٌ بسيطةٌ في ظاهرها عميقةٌ في أثرها:
شفافيةُ آلياتِ الإعمار وتمويله مع آلياتِ رقابةٍ مستقلة.
خارطة طريقٍ مُعلنةٍ لنزع السلاح بصيغةٍ مرحليةٍ تضمنُ حقوقَ الأمنِ للفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍ سواء.
دورٌ أمميٌّ فعّال في الإشرافِ على الانتقالِ الأمني والإداري، مع مشاركةٍ عربيةٍ تُكسبُ خطةَ الحلِّ مشروعيةً محلية. وفي المشهدِ الإنساني، تظلُّ كلماتُ امرأةٍ عائدةٍ إلى أنقاض بيتها أصدقَ من كلِّ بياناتِ القمم: "تعبنا…"؛ هذا التعبُ يذكّرنا أن السلامَ نجاحٌ يقاسُ بقدرةِ الناسِ على النومِ بلا خوفٍ، وعلى أن يمدّوا أطفالهم طعامًا كافياً، وعلى أن تبنى المدارسُ والمستشفياتُ لا مجردُ علاماتٍ على لافتاتٍ دولية. إن وعيَهُم وحده لا يكفي؛ بل يحتاجُ إلى هياكلٍ تَحمِله.
ختامًا: طوفانُ شرمِ الشيخ ليس نهايةً ولا بدايةً محققةً بحدِّ ذاتها، بل لحظةٌ مفصليةٌ تُقاس نجاحاتها بالأيامِ القادمة وبالالتزاماتِ التي ستُترجمُ إلى واقعٍ إنسانيٍ وتنموي. هناك فرصةٌ للهدوء، نعم. وهناك احتمالٌ لسلامٍ مستدامٍ ربما، لكن دون تحويلِ الكلماتِ إلى آلياتٍ عمليةٍ وشفافةٍ تَجمَعُ بين العدالةِ والأمنِ والتنميةِ، تبقى الكلماتُ — مهما علا صداها — مجرد نياحةٍ جميلةٍ على ذاكرةِ حربٍ طويلة...
ليفانت: د. إبراهيم جلال فضلون
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

