-
كيف يمكن لسوريا أن تستفيد من التجربة اليهودية في تحقيق العدالة بعد الحرب العالمية الثانية؟
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واجه الشعب اليهودي تحديًا وجوديًا: كيف يمكن توثيق جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون، ومحاكمة المسؤولين عنها، وصناعة ذاكرة جماعية تحمي الحقيقة من التزييف؟
هذه التجربة، التي امتدت لعقود، أسست أحد أكثر نماذج العدالة انتقاليةً وصرامةً في العالم، ويمكن أن تقدّم دروسًا جوهرية للسوريين في مرحلة ما بعد الحرب، خصوصًا فيما يتعلق بتوثيق الجرائم، ومحاسبة الجناة، وحماية الذاكرة الوطنية.
توثيق… حجر الأساس في تحقيق العدالة
بعد الحرب مباشرة، أدرك اليهود سواء في أوروبا أو في إسرائيل أن العدالة لا يمكن أن تتحقق دون توثيق شامل، منظم، واحترافي للجرائم.
أهم ملامح عملية التوثيق اليهودية:
- جمع الشهادات الفردية من الناجين، بما في ذلك أسماء الضحايا وعائلاتهم ومناطقهم.
- تأسيس أرشيفات وطنية؛ أبرزها “ياد فاشيم” الذي أصبح أكبر مؤسسة في العالم لتوثيق ضحايا الهولوكوست.
- تخصيص فرق متخصصة لحفظ الصور، المستندات، رسائل المعتقلين، وسجلات المعسكرات النازية.
- جمع أسماء الضحايا بالكامل ومحاولة ربط كل ضحية بقصة، وصورة، وملف.
- تحويل الذاكرة إلى معالم أثرية مثل النُصُب التذكارية والمتاحف، كي تكون الشهادة حية أمام الأجيال.
الدروس الممكنة لسوريا:
- بناء هيئة وطنية مستقلة للأرشفة تضم حقوقيين ومؤرخين وناجين.
- جمع شهادات السوريين من السجون والمجازر قبل أن تضيع مع الزمن.
- حفظ أسماء الضحايا، بدون تسييس، وخلق “ذاكرة عامة” لا يمكن إنكارها.
- تحويل مواقع الجرائم الكبرى إلى معالم تذكارية وطنية.
العدالة القانونية… من محاكمات نورمبرغ إلى محاكمة أيخمان
نموذج نورمبرغ: محاكمة قادة النظام
كانت محاكم نورمبرغ أول عمل قانوني كبير لمحاسبة مجرمي النازية، وأسست لمبادئ قانونية ما تزال معتمدة حتى اليوم، مثل:
- محاسبة القادة السياسيين والعسكريين عن الجرائم ضد الإنسانية.
- عدم قبول الدفاع القائم على “تنفيذ الأوامر فقط”.
- توثيق الجرائم بالصوت والصورة والمستندات أمام العالم.
محاكمة أدولف أيخمان… العدالة أمام الجمهور
يُعد أدولف أيخمان أحد أبرز مهندسي “الحل النهائي” الذي قاد إلى إبادة ملايين اليهود.
هرب بعد الحرب إلى الأرجنتين، لكن جهاز “الموساد” تمكن من اعتقاله عام 1960 ونقله سرًا إلى إسرائيل.
ما الذي ميّز هذه المحاكمة؟
- كانت محاكمة علنية كاملة، بثتها وسائل الإعلام أمام العالم كله.
- قُدمت فيها شهادات ناجين أمام الجمهور لأول مرة.
- ظهر آلاف الصفحات من الوثائق الأصلية.
- كان الهدف ليس فقط إعدام أيخمان، بل رواية الحقيقة كاملة.
- اعتُبرت المحاكمة لحظة تأسيسية في “ذاكرة الهولوكوست” الإسرائيلية.
الدروس الممكنة لسوريا:
- الحاجة إلى محاكمات علنية شفافة للمسؤولين عن جرائم الحرب.
- جمع أدلة قوية، موثقة، تتجاوز الرواية الشفوية إلى وثائق رسمية.
- إتاحة محاضر الجلسات للناس كجزء من عملية الشفاء المجتمعي.
- محاسبة من نفّذ أوامر الإبادة أو التعذيب أو الحصار، مهما كان منصبه.
الذاكرة الوطنية… حماية الحقيقة من التزييف
اليهود لم يكتفوا بالمحاكمات، بل جعلوا الذاكرة سلاحًا ضد الإنكار عبر:
- إنشاء متاحف الهولوكوست في أوروبا وأمريكا وإسرائيل.
- تدريس الهولوكوست في المدارس كجزء من الهوية الوطنية.
- إقامة نصب تذكارية في مواقع الإبادة.
- إحياء أيام تذكارية وطنية.
الدروس الممكنة لسوريا:
بعد عقود من العنف، تحتاج سوريا إلى:
- تحويل السجون سيئة السمعة مثل صيدنايا، تدمر، الفرع 215 إلى مواقع ذاكرة.
- تدريس تاريخ الانتهاكات في المناهج التعليمية منعًا لإعادة إنتاج الطغيان.
- إنشاء يوم عام وطني لذكرى ضحايا الحرب والاعتقال والاختفاء القسري.
- حماية الأرشيف من الضياع أو التحريف بعد تغيّر الأنظمة.
العدالة كشرط للمصالحة… لا مصالحة بلا حقيقة
التجربة اليهودية تثبت أن المجتمع الذي لا يحاسب جلّاديه سيعيد إنتاج الجريمة، بينما المجتمع الذي يبني ذاكرته على الحقيقة يستطيع أن ينهض.
في سوريا، يمكن أن تكون العدالة مدخلًا لبناء دولة جديدة تقوم على المواطنة لا على الخوف، وعلى التاريخ الحقيقي لا التاريخ الرسمي.
إن تجربة العدالة التي خاضها اليهود بعد الحرب العالمية الثانية من التوثيق الدقيق، إلى المحاكمات العلنية، إلى حماية الذاكرة تشكل نموذجًا غنيًا يمكن للسوريين البناء عليه.
فالسؤال ليس كيف نُعاقب الماضي فقط، بل كيف نضمن أن لا تتكرر الجريمة في المستقبل، وأن تبقى الحقيقة حاضرة للأجيال القادمة.
العدالة ليست انتقامًا… العدالة هي شرط الدولة
بعض الأصوات تطالب السوريين بـ”العفو”، أو “الصفحة الجديدة”، أو “الحل الواقعي”.
لكن كل تجارب العالم لاسيما التجربة اليهودية تقول بوضوح:
لا يمكن أن تبدأ دولة جديدة فوق جثث بلا أسماء.
العدالة الانتقالية ليست انتقامًا.
العدالة ليست ثأرًا.
العدالة ليست مزاجًا سياسيًا.
العدالة هي العقد الاجتماعي الجديد، وهي الشرط الأول لأي دستور، وهي الضمان الوحيد لكي لا يعود الاستبداد بأسماء جديدة.
سوريا تستحق لحظة مواجهة… مثل تلك التي عاشها اليهود مع أيخمان
ستأتي لحظة لا يمكن فيها الهروب من الحقيقة.
سيتوجب على سوريا المستقبل أن تواجه ماضيها، أن تفتح ملفات السجون، وأن تُظهر الوثائق، وأن تُسمع شهادات الناجين، وأن تقول للعالم:
هذا ما جرى، وهذا من فعل، وهذه أسماء ضحايانا.
عندها فقط يمكن أن تبدأ المصالحة، ويمكن أن يتوقف النزيف، ويمكن أن تعود سوريا دولة لا مزرعة.
ليفانت:عبدالله البنيه
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

