-
القوة: حارسة الحق في معترك السياسة
نوري بیخالي
في زحام المُثُل والشعارات التي تملأ الفضاء السياسي، تبرز حقيقة صارمة لا تعترف بالبلاغة وحدها ولا تكتفي بالعدالة المجردة، حقيقة نطقت بها تجارب الأمم وكتبتها بدماء شعوبها على جدران التاريخ.
يقول القائد الثوري الأممي إرنستو تشي غيفارا "الحق الذي لا يستند إلى قوة تحميه، باطل في شرع السياسة."هذه المقولة ليست دعوة للقوة العمياء ولا تبريراً للاستبداد، بل هي كشف لطبيعة العلاقات الدولية وديناميكيات الصراع على السلطة، حيث لا يُحترم الحق لذاته، بل لقدرة أصحابه على فرض احترامه.
إن البعد الفكري لهذه المقولة ينطلق من فهم واقعي للطبيعة البشرية والسياسية، فالتاريخ لم يشهد حقاً انتُزع بالدموع وحدها، ولا هوية حُفظت بالمناشدات فقط. القوة هنا ليست نقيضاً للحق، بل هي الوعاء الذي يحفظه من الضياع في عالم تتصارع فيه المصالح وتتقاطع الإرادات.
الفكر السياسي الواقعي منذ ماكيافيلي وحتى منظري العلاقات الدولية المعاصرين، يؤكد أن الدولة في جوهرها احتكار شرعي للقوة، وأن الجماعات التي لا تمتلك أدوات القوة تظل رهينة لإرادة الآخرين مهما كانت عدالة قضيتها. هذا لا يعني أن القوة تخلق الحق، لكنها تضمن ألا يُسحق الحق تحت أقدام القوى المتنافسة.
أما البعد السياسي فيتجلى في الممارسة اليومية للسياسة الدولية والإقليمية، حيث تُحدد موازين القوى مصائر الشعوب ومستقبل الهويات.
في الشرق الأوسط بالذات، حيث ترسم الجغرافيا السياسية بحبر من دماء ونار، نرى كيف أن الشعوب التي افتقدت القوة العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية، وجدت نفسها مشتتة بين الحدود المصطنعة، مُنكرة الحقوق، مهمشة في قرارات مصيرها.
المعاهدات الدولية والقرارات الأممية نفسها، رغم ما تحمله من شرعية قانونية، تبقى حبراً على ورق إن لم تقف خلفها إرادة قوية وقدرة على التنفيذ أو الضغط لفرض التنفيذ.
في هذا السياق، يبرز الواقع الكوردي كنموذج حي لمعنى هذه المقولة وضرورتها. نحن الكورد، بتاريخنا الممتد وهويتنا العريقة وحقوقنا المشروعة، عشنا قروناً من التجاهل والإنكار ليس لأن حقنا في تقرير المصير غير عادل، بل لأن موازين القوة لم تكن في صالحنا.
مطالبنا المحقة بالاعتراف بلغتنا وثقافتنا وحقوقنا القومية، ظلت تصطدم بجدار الواقع السياسي الذي لا يعترف بالحق المجرد. التقسيمات الاستعمارية التي مزقت جغرافيتنا، والأنظمة القومية التي أنكرت وجودنا، والسياسات الإقليمية التي تلاعبت بمستقبلنا، كلها تؤكد أن الحق الكوردي ظل معلقاً في الهواء ما لم يُسند بقوة تفرض احترامه.
لكن القوة المقصودة هنا ليست العسكرية وحدها، رغم أهميتها الحاسمة في سياق الصراعات المسلحة، بل هي منظومة متكاملة من القوة السياسية التي تُبنى على الوحدة الوطنية والتمثيل الشرعي، والقوة الاقتصادية التي تضمن الاستقلالية في القرار، والقوة الثقافية التي تحفظ الهوية وتنشرها، والقوة الدبلوماسية التي تكسب الحلفاء وتبني التحالفات.
نحن الكورد اليوم، في أجزاء من جغرافيتنا، بدأنا ندرك هذه الحقيقة، فبناء مؤسسات الحكم الذاتي في إقليم كوردستان (يشمل هذا الواقع ایضا غرب كوردستان - ڕۆژئاڤا)، والمشاركة السياسية الفاعلة في الأنظمة القائمة، والمقاومة المسلحة حيث كانت ضرورية، كلها محاولات لترجمة الحق إلى واقع محمي بالقوة.
إن ضرورة هذه القوة لا تنبع فقط من الحاجة للدفاع عن الوجود المادي، بل من الحاجة الأعمق للحفاظ على الهوية الثقافية واللغوية في مواجهة سياسات التذويب والإنكار.
الهوية الكوردية، بما تحمله من تراث لغوي وثقافي وتاريخي، لازالت تواجه تهديداً وجودياً. في مثل هذه الظروف، لا يكفي الحق التاريخي أو الثقافي بالوجود، بل لا بد من قوة سياسية ومؤسساتية تفرض حماية هذا الحق وتضمن استمراريته للأجيال القادمة.
التجربة التاريخية تُعلمنا أن الشعوب التي نجحت في الحفاظ على هويتها وانتزاع حقوقها، هي تلك التي امتلكت رؤية استراتيجية لبناء القوة بكل أشكالها.
الصهيونية مثلاً، رغم الخلاف حول مشروعها، نجحت في تحويل فكرة إلى دولة لأنها بنت منظومة قوة متكاملة: دبلوماسية كسبت الدعم الدولي، واقتصادية جمعت الموارد، وعسكرية فرضت الأمر الواقع، وثقافية حافظت على الرابطة الجماعية. هذا الدرس ينطبق على كل قضية عادلة: العدالة وحدها لا تكفي، بل لا بد من القدرة على حمايتها وفرضها.
بالنسبة للكورد، فإن الأخذ بهذه المقولة يعني ضرورة العمل على عدة مستويات متزامنة. أولاً، تحقيق الوحدة الوطنية وتجاوز الانقسامات الحزبية والإقليمية التي أضعفت الموقف التفاوضي الكوردي تاريخياً. ثانياً، بناء مؤسسات قوية تضمن الحكم الرشيد وتكسب الشرعية الداخلية والخارجية. ثالثاً، تطوير القدرات العسكرية (پێشمەرگە) والأمنية بما يضمن الدفاع عن المناطق الكوردية ضد التهديدات الخارجية. رابعاً، بناء اقتصاد مستدام يقلل الاعتماد على الآخرين ويوفر الموارد اللازمة للاستقلالية في القرار. خامساً، تطوير استراتيجية دبلوماسية ذكية تبني التحالفات الإقليمية والدولية وتكسب التعاطف مع القضية الكوردية.
لكن يجب التأكيد أن القوة هنا ليست غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة لحماية الحق. القوة بلا حق تتحول إلى استبداد وظلم، والحق بلا قوة يتحول إلى أمنيات وأحلام. التوازن بين الاثنين هو جوهر السياسة الحكيمة.
القضية الكوردية عادلة في جوهرها، لكنها تحتاج إلى قوة تحميها لتتحول من مطلب أخلاقي إلى واقع سياسي. هذا يتطلب وعياً استراتيجياً بطبيعة الصراع السياسي، وإدراكاً أن العالم لا يتحرك بالعواطف بل بالمصالح وموازين القوى.
إن شرع السياسة، كما یصفە غیفارا في مقولتە، ليس شرعاً أخلاقياً بالضرورة، بل هو شرع الواقع والممكن. في هذا الشرع، لا يُعترف بالحق إلا إذا استطاع أصحابه فرض احترامه. هذه ليست دعوة للتخلي عن العدالة أو القيم، بل هي دعوة لفهم أن القيم تحتاج إلى من يحميها، وأن العدالة تحتاج إلى من يفرضها.
نحن الكورد، وإننا نخوض معركتنا المستمرة من أجل الاعتراف والحقوق، مدعوون لاستيعاب هذا الدرس التاريخي: الحق وحده لا يكفي، بل لا بد من القوة التي تحوله إلى واقع معاش، وتضمن ألا يظل مجرد شعار يُردد أو مطلب يُرفع.
علينا الّا ننسى بانه في معترك السياسة، البقاء للأقوى، والحقوق لمن يستطيع حمايتها، والهوية لمن يملك القدرة على صونها وتوريثها.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

