-
الكورد في تقاطع الجغرافيا والسياسة

مع استمرار التغيرات المتسارعة التي يشهدها المشهد السوري، تبدو القضية الكوردية أمام تحدٍّ استراتيجي لا يتعلق فقط بمطالبها الخاصة، بل بكيفية تموضعها داخل مشروع وطني شامل يعيد تعريف الدولة السورية نفسها. فالتحولات الإقليمية والدولية، وتراجع منطق الحسم العسكري كأداة لتغيير الواقع، يفرضان على مختلف الأطراف إعادة النظر في أدوات الفعل السياسي، بما يتجاوز الشعارات والمواقف الحدّية.
لم تعد مقاربات فرض الأمر الواقع من خلال السلاح قادرة على إنتاج حلول دائمة أو شرعية، خصوصاً في بيئة دولية تعيد تأكيد التزامها بإطار الدولة الوطنية كمرجعية وحيدة لأي حل سياسي. وفي هذا السياق، تصبح الواقعية السياسية شرطاً أساسياً لأي مشروع كوردي جاد، ينشد الاعتراف والعدالة، لا عبر المواجهة، بل من خلال الانخراط في عملية تفاوضية تضمن الشراكة والحقوق ضمن دولة ديمقراطية لا مركزية.
إن فهم أبعاد القضية الكوردية يتطلب تجاوز النظرة الضيقة للمطالب السياسية، والانتقال إلى بناء رؤية وطنية شاملة تستوعب التنوع وتعزز العدالة، بحيث تصبح الحقوق الكوردية جزءاً لا يتجزأ من المشروع الوطني الذي يعكس إرادة جميع السوريين.
لقد أثبتت التجربة السورية منذ 2011 أن كل المشاريع العسكرية، مهما توسّعت، كانت مؤقتة بطبيعتها، وتفتقر إلى الشرعية الدولية والقبول الشعبي العام. كما أن الدولة السورية الجديدة التي يُفترض أن تتشكل على أنقاض الاستبداد، لن تحتمل وجود جيوش موازية أو سلطات أمر واقع مهما كانت هويتها أو نواياها. فالتعددية التي تسعى إليها سوريا المستقبل، لا يمكن أن تنمو في بيئة مليئة بالبندقية، بل تحتاج إلى فضاء سياسي مفتوح، ودستور يضمن الحقوق، ومؤسسات ديمقراطية تصون التنوع وتحمي الحريات.
جميع الفصائل المسلحة، بما في ذلك تلك التي تحمل الطابع الكوردي، ستجد نفسها أمام ضرورة الاندماج ضمن جيش وطني سوري موحد. الكورد، نظراً لمكانتهم التاريخية والاجتماعية، يمتلكون فرصة مميزة للانتقال من جهة محلية إلى شريك فاعل على المستوى الوطني، من خلال مشاركتهم في بناء مستقبل البلاد على أسس المواطنة واللامركزية. القوة الحقيقية للكورد اليوم لا تكمن في السلاح، بل في عدالة قضيتهم، التي تتجلى بوحدة الصف الكردي التي أُنشئت عبر كونفراس الوحدة، وفي قدرتهم على الانخراط في مشروع وطني جامع يسعى لإعادة بناء سوريا وضمان حقوق جميع مكوناتها.
إن اللحظة الراهنة تقتضي من الفاعلين الكورد، خصوصاً المجلس الوطني الكوردي، تجاوز الخطابات التقليدية، والتفكير في تموضعهم ضمن المعادلة الوطنية لا على هوامشها. فالقضية الكوردية لا يمكن أن تُحلّ بمنطق المنطقة الخاصة، بل ضمن إطار وطني توافقي، يُعطي للكورد حقهم في تقرير شكل مشاركتهم، لا مصيرهم الانعزالي. في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة، لم يعد ممكناً الاستمرار في الاعتماد على قوى خارجية لتأمين النفوذ أو تثبيت المكاسب. الحماية الحقيقية للكورد، كما لكل مكونات سوريا، تكمن في الدولة التي تحترم الحقوق، لا في التوازنات المؤقتة التي تنهار عند أول تبدّل إقليمي.
وبما أن القرار السياسي سيبقى مركزياً في دمشق، فإن من الضروري أن يدرك المجلس الوطني الكوردي، باعتباره الممثل السياسي الأكثر ارتباطاً بالثورة السورية وبالحراك الوطني، أن مركز نشاطه يجب أن يكون في العاصمة. من دمشق يُصاغ الدستور، وتُناقش القوانين، وتُحدد ملامح الدولة. الانتقال إلى دمشق ليس مجرد خطوة رمزية، بل هو قرار استراتيجي يكرّس الانتماء الوطني، ويمنح المجلس شرعية سياسية ومجتمعية أوسع. فالحل في سوريا لن يولد في الجيوب المنفصلة أو في غرف العمليات الخارجية، بل في الحوار الداخلي، وفي المؤسسات السورية التي يجب إعادة بنائها بإرادة وطنية جامعة.
إن البقاء في الهوامش الجغرافية أو الاستثمار في سلطات محلية غير معترف بها دولياً لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة والتهميش. يجب أن ينتقل الكورد بثقله السياسي إلى حيث يتم اتخاذ القرار، وأن يعمل من قلب العملية السياسية لبناء سوريا جديدة. فالسياسة ليست مجرد حضور، بل قدرة على التأثير، وصناعة البدائل، وهذا لا يتم إلا من داخل المركز السياسي الحقيقي.
ولا يمكن للقضية الكوردية أن تجد طريقها إلى الحل دون حوار وطني شامل مع القوى الوطنية السورية من مختلف المكونات، عرباً وكورداً وسرياناً وآشوريين وعلويين وسنة ودروزاً وغيرهم. فالكورد ليسوا وحدهم في هذه البلاد، وأي مشروع لا يأخذ بعين الاعتبار مصالح وهواجس بقية الشركاء في الوطن، لن يصمد أمام اختبار الزمن. القضية الكوردية لا تعيش في فراغ، بل في بيئة سورية مشبعة بالهويات وبالتجارب وبالآلام الجماعية. وكل محاولة لبناء حل انفرادي ستصطدم عاجلاً أو آجلاً بجدار الواقع الوطني.
لقد تمتع المجلس الوطني الكوردي بعلاقات واسعة مع مختلف أطياف المعارضة السورية، مقدّماً مواقف معتدلة ومسؤولة طوال سنوات الثورة. واليوم، يقع على عاتقه الحفاظ على هذا الإرث وتطويره، بعيداً عن الدخول في تحالفات هامشية أو مناطقية ضيقة. فالرهان الحقيقي يكمن في دعم التحالف الوطني، حيث المطلوب هو بناء جسور الثقة والتعاون، لا تعميق الخلافات والخنادق الصراعية.
وفي هذا السياق، يصبح للجغرافيا أهمية استراتيجية لا يمكن إغفالها. فتركيا، التي تمتد حدودها مع سوريا لأكثر من تسعمئة كيلومتر، لاعب رئيسي لا يمكن تجاهله في أي تسوية سورية. إن التعامل العقلاني مع أنقرة، وتفهم مخاوفها، والسعي إلى إقامة علاقات متوازنة معها، لا يعني التنازل عن الحقوق، بل هو إدراك للواقع الجيوسياسي الذي يفرض نفسه على كل مسار سياسي ناجح. السياسة الحكيمة تعرف كيف تميّز بين العداء والمصالح، بين الثوابت الوطنية والتكتيك الإقليمي.
كما أن إقليم كوردستان العراق يمثل عمقاً قومياً وشريكاً طبيعياً للمجلس الوطني الكوردي، ويجب الحفاظ على هذه العلاقة الاستراتيجية وتطويرها بما يخدم المصالح المشتركة ويعزز الاستقرار. فهذا الإقليم الذي نجح في بناء نموذج سياسي رغم التحديات، يمكن أن يشكل مصدر إلهام وتجربة قابلة للاستفادة، لا بالنسخ بل بالتفاعل الذكي.
إلى جانب تركيا وكوردستان العراق، تبرز المملكة العربية السعودية اليوم كلاعب عربي محوري، لا سيما بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يسعى إلى لعب دور إيجابي في إعادة ترتيب المنطقة، بما فيها الملف السوري. من هنا، يجب أن يعطي المجلس الوطني الكوردي أهمية قصوى للعلاقة مع السعودية، لما لها من ثقل عربي ودولي، وتأثير فعلي على مسار الحل في سوريا. العلاقة مع الرياض ليست خياراً سياسياً فقط، بل هي بوابة للاندماج في العالم العربي، وتحصين القضية الكوردية من أي عزل أو تهميش إقليمي.
إن استمرار المجلس في مساره الوطني، وتفاديه لأي انزلاق نحو العزلة أو الخطاب المتطرف، هو ما سيضمن له البقاء كفاعل سياسي مسؤول يحظى بالاحترام والدعم. فالقوة لا تأتي من رفع سقف الخطاب، بل من عقلانية الطرح، واستيعاب التوازنات، وبناء قاعدة دعم وطنية واسعة. إن العزلة المحلية أو الإقليمية لا تخدم القضية الكوردية، بل تعمّق الهوة بين الكورد وبين شركائهم في الوطن والمحيط، وتضعف موقعهم التفاوضي، وتمنح خصومهم الذرائع. لذلك، فإن الانفتاح على الجميع، والسعي إلى بناء توافقات وطنية حقيقية، يمثل الخيار الأنجع، والضامن الوحيد لحلٍ دائم ومستقر.
إن القضية الكوردية في سوريا ليست قضية انفصال، ولا ينبغي لها أن تكون. هي قضية اعتراف ومشاركة وعدالة. هي جزء لا يتجزأ من معركة السوريين لبناء دولة ديمقراطية، عادلة ومتعددة لا مركزية، تحتضن كل أبنائها بلا تمييز. ومن دمشق، لا من أي مكان آخر، سيُحسم مستقبل الكورد، ليس عبر شعارات راديكالية أو تحالفات ضيقة، بل عبر العمل السياسي الصبور، والمفاوضات المسؤولة، وبناء الجسور بدل رفع المتاريس. هكذا فقط، يمكن للكورد أن ينتزعوا مكانهم الطبيعي في الوطن السوري، لا كطرف هامشي بل كشريك في صناعة المصير، ومساهم فاعل في بناء مستقبل يليق بتضحيات الجميع.
ليفانت: عزالدين ملا
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!