الوضع المظلم
الأربعاء ٠١ / أكتوبر / ٢٠٢٥
Logo
الكورد في غرب كوردستان ورهان التفاوض
عزالدين ملا

شهدت سوريا خلال العقد الماضي تحولات عميقة قلبت معالم المشهد السياسي والاجتماعي فيها رأساً على عقب، وأدت إلى تفكك بنية الدولة وفقدانها السيطرة على أجزاء واسعة من أراضيها. بعد سقوط النظام الذي حكم البلاد لعقود، توقّع الكثيرون بداية عهد جديد يعمه السلام والاستقرار، لكن سوريا دخلت في دوامة أعمق من الصراع، إذ تعقّدت الأزمة بشكل لم يسبق له مثيل، وتحولت إلى مسرح لصراعات متعددة الأبعاد بين قوى إقليمية ودولية، كل منها يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة على حساب وحدة البلاد ومستقبل شعبها. لم تعد الأزمة السورية مجرد نزاع داخلي، بل أصبحت ساحة لتصفية حسابات إقليمية وعالمية، ما زاد من توتير الأوضاع، وأدّى إلى تفاقم الانقسامات الطائفية والعرقية والجغرافية التي باتت تهدد كل أمل في وحدة الوطن.
     
في خضم هذا الصراع المركّب، تحمّل الشعب السوري عبء أزمات متراكمة؛ فقد دمرت الحروب بنى المجتمع، وخلقت أزمات إنسانية غير مسبوقة من نزوح داخلي وخارجي، إضافة إلى انهيار الاقتصاد وتدهور الخدمات الأساسية. يعيش السوريون اليوم حالة من القلق والترقب، إذ تخيم عليهم مخاوف من أن تتحول المرحلة الانتقالية إلى نزاع آخر قد يفاقم من معاناتهم، ويحرمهم من فرصة العيش في بلد آمن ومستقر. إن واقع مؤسسات الدولة الهشة، وغياب الثقة المتبادلة بين الأطراف المختلفة، يجعل الطريق نحو السلام محفوفاً بالعقبات، ولا سيما في ظل أزمة اقتصادية خانقة تهدّد السلم الاجتماعي، وتزيد من احتمالات الانفجار.
 
 يبرز الكورد في هذا السياق كجزء أصيل ومهم من النسيج الوطني السوري، لكنهم يواجهون واحدة من أشد فصول التهميش والإقصاء السياسي والاجتماعي والثقافي في تاريخ سوريا الحديث. إذ لم تكن معاناتهم مجرد نتاج الظروف الراهنة، بل هي امتداد لسياسات طويلة المدى استهدفت نفي هويتهم وحرمانهم من حقوقهم الأساسية. فقد تم تهميش الكورد عبر تجريدهم من التمثيل السياسي، ومنعهم من التعبير عن ثقافتهم ولغتهم في المدارس ووسائل الإعلام، إلى جانب حرمانهم من حقوقهم الاجتماعية والمعيشية، مما جعلهم يعانون من عزلة مركبة رغم كونهم يشكلون شريحة كبيرة من السكان. هذا التهميش لم يثنِهم عن المطالبة بحقوقهم، بل دفعهم إلى تنظيم أنفسهم سياسياً والاجتهاد في تأسيس كيانات تمثلهم بوضوح، وفي مقدمتها المجلس الوطني الكردي الذي يعمل على توحيد جهودهم داخليا وتمثيلهم خارجياً.
   
يشكّل المجلس الوطني الكردي اليوم المنصة الرسمية التي تعبّر عن طموحات الكورد السوريين في الحقوق والمشاركة السياسية، لكنه يواجه تحديات جسيمة تتمثل في التنوع الداخلي الكبير ضمن الحركة الكردية، والاختلافات في الرؤى والاستراتيجيات، إضافة إلى تعقيدات التفاوض مع باقي القوى السورية والديناميات الإقليمية والدولية. في ظل هذه التحديات، يبدو الحوار الدبلوماسي خياراً لا مفر منه، طريقاً لإيجاد حلول سلمية تحقق مكاسب سياسية واجتماعية ملموسة، بعيدا عن أتون الصراع المسلح المستمر الذي يستنزف الموارد ويزيد من معاناة المدنيين.
   
مؤتمر قامشلي الذي عقد في 26 نيسان يعد محطة محورية في تاريخ الكورد في غرب كوردستان؛ فقد جمع هذا المؤتمر الأطياف المختلفة للحركة الكردية حول رؤية موحدة تتجاوز الخلافات، لتأسيس موقف تفاوضي متماسك مع السلطة الانتقالية في دمشق. هذه الرؤية لا تقتصر على المطالب السياسية فقط، بل تشتمل أيضا على حماية الهوية الثقافية وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لتشكيل إطار شامل يعبر عن تطلعات الكورد في سوريا المستقبل. هذا التكامل بين الجوانب السياسية والثقافية والاقتصادية يعكس فهما عميقا بأن السلام الحقيقي لا يتحقق إلا بالاعتراف الكامل بالتنوع وبناء تفاهمات تسهم في تحقيق العدالة.
   
ولا يمكن تناول القضية الكردية في سوريا بمعزل عن تأثيرات الإقليم، حيث تلعب الدول المجاورة دوراً محورياً في تحديد مستقبل الكورد.
   
تركيا، على سبيل المثال، تنظر إلى الوجود الكردي السوري بعين الريبة والتهديد لأمنها القومي، وهو ما يعقّد أي محاولة لحل شامل داخلي. في الوقت نفسه، تستغل قوى دولية عدة الملف الكردي في صراعاتها الجيوسياسية، ما يجعل من الضروري على الحركة الكوردية أن تتبع سياسة خارجية ذكية ومتوازنة تحمي مصالح شعبها وتفتح لها آفاقا جديدة في محيطها الإقليمي والدولي.
   
إن تحقيق الاستقرار في سوريا، ولا سيما في ظل التنوع العرقي والطائفي والديني الكبير، يتطلب بناء دولة ترتكز على مبادئ العدالة والمساواة، لا على إقصاء أي طرف. أي حل سياسي يستثني أو يقلل من حقوق الكورد لن يكون سوى مهدد لفشل العملية السياسية برمتها، لأن السلام الدائم والشامل لا يمكن أن يتحقق إلا عبر إشراك كل المكونات في صنع القرار، وبناء مؤسسات ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وتضمن فرصاً متساوية في التنمية والعيش الكريم.
   
المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا اليوم تشكّل فرصةً تاريخيةً نادرةً لإنهاء سنوات من الصراع الدموي وبداية عهد جديد من الوحدة والتعايش. لكن هذه الفرصة لن تثمر إلا إذا استُثمرت بحكمة، وبإرادة سياسية حقيقية تُظهر استعداداً لحل القضايا العالقة، وخاصة قضية الكورد التي تمثل حجر الزاوية في معادلة الاستقرار. ويأتي الحوار السياسي والدبلوماسي، المستند إلى رؤية مؤتمر قامشلي، كطريق مثالي لإرساء قواعد تفاهم تبني عليها سوريا مستقبلها. فالوطن بحاجة إلى رؤية جامعة تُحتضن فيها جميع المكونات، تحترم التنوع، وتضمن لكلّ مواطن حقوقه، بمن فيهم الكورد الذين طالما انتظروا أن يُعترف بهم كشركاء أساسيين في بناء سوريا الجديدة.
   
إن نجاح سوريا في تجاوز أزمتها لا يعتمد فقط على اتفاقات سياسية أو تفاهمات مؤقتة، بل على مدى قبول الجميع بالاختلاف كقوة فاعلة لا تهديد، والتزامهم بإرساء دولة القانون والعدالة الاجتماعية. هذا هو السبيل الوحيد لبناء وطن حر وموحد وقادر على استعادة مكانته العالمية، وضمان حياة كريمة ومستقرة لكل أبنائه، بمن فيهم الكورد الذين يمثلون ركيزة أساسية في هذا البناء الوطني. إن السلام الحقيقي هو ذلك السلام الذي يولد من رحم العدالة والشراكة، لا من فرض الأقوى، وهنا يكمن التحدي الأكبر الذي تنتظره سوريا وشعبها.

ليفانت:عزالدين ملا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!