الوضع المظلم
الإثنين ٢٠ / أكتوبر / ٢٠٢٥
Logo
سوريا الجديدة الممكنة
عزالدين ملا

تعيش سوريا اليوم لحظة مفصلية في تاريخها، تستعرض جراحها العميقة بين أصداء ماضيها المؤلم وتحديات المستقبل الغامض. وطن خرج من عتمة الاستبداد محملاً بثقل الدمار والخراب، لكنه ما زال يحتفظ بحلم النهوض. لم يكن سقوط النظام سوى نقطة انطلاق في رحلة شاقة نحو استعادة الهوية الحقيقية وبناء دولة تعيد تعريف نفسها بعد سنوات من القمع والاحتكار.
     
سوريا اليوم ليست مجرد رقعة جغرافية منهكة، بل كيان إنساني يبحث عن معنى جديد للانتماء، عن وطن يُدار بعيداً عن مخاوف الطغيان، وعن مجتمع يتجاوز منطق الكراهية والصراع. في هذا المشهد الوطني المحوري، يظهر الكورد كجزء لا يتجزأ من هذا الواقع المعقد، حاملين معاناة مشتركة مع كل السوريين، لكنها في الوقت نفسه أعمق وأصعب، لأنها تمس وجودهم وهويتهم وذاكرتهم. والآن، مع انطلاق صفحة جديدة من تاريخ البلاد، تتاح للكورد كما لكل السوريين فرصة نادرة لتحويل الألم إلى وعي، والمأساة إلى مشروع بناء، والعزلة إلى شراكة حقيقية في وطن جديد ينبثق بصعوبة من تحت ركام الماضي.

   
تحويل سنوات الإقصاء والقمع إلى قوة سياسية واجتماعية فاعلة ليس مجرد فكرة نظرية، بل هو فعل نضج سياسي يتطلب وعياً عميقاً بآليات التغيير التاريخي. فالمظلومية مهما كانت حقيقة لا تبني مشروعاً وطنياً إلا إذا تحولت إلى رؤية فكرية وسياسية تقوم على المشاركة لا الانعزال. الكورد الذين ظلوا لعقود في هامش الدولة السورية محرومين من الجنسية وملاحقين ثقافياً وسياسياً، يمتلكون اليوم وعياً سياسياً يؤهلهم لأن يكونوا شركاء فاعلين في رسم ملامح سوريا المستقبل.
   
هذه الفرصة التاريخية لن تتكرر بسهولة، ولذلك يجب على القوى الكوردية أن تتجاوز الانقسامات والتنافس الحزبي الضيق. فالقوة الحقيقية لا تكمن في الصوت العالي، بل في القدرة على تحويل الذاكرة إلى تجربة سياسية ناضجة، والآلام إلى طاقة بناء، والماضي إلى دروس حكمة بدلا من انتقام.

   
من هنا فإن مشاركة الكورد العادلة والفعالة في مؤسسات سوريا الجديدة هي اختبار مصيري لمدى جدية التحوُّل الديمقراطي الذي طال انتظاره. فالشراكة لا تتحقق بمجرد تمثيل رمزي أو مناصب شكلية، بل بدمج حقيقي للكورد في مؤسسات الدولة، في الإدارة والسياسة والجيش والتعليم والثقافة والإعلام. هذه المشاركة يجب أن تكون قائمة على الكفاءة والحق لا على الترضية أو الحصص. 
   
إن إشراك الكورد في صياغة الدستور الجديد مثلاً ليس مجرد اعتراف بحقوقهم، بل هو ضمان لاستقرار سوريا كلها. فالدستور العادل هو الذي يرى في التعددية قوةً لا تهديداً، ويصون لكل مكون هويته وحقوقه ضمن إطار المواطنة الجامعة. في هذا الإطار، فإن الاعتراف الرسمي باللغة الكوردية كلغة وطنية إلى جانب العربية سيكون خطوة رمزية ومعنوية كبيرة في بناء الثقة، مثلما ستكون مشاركة الكورد في الحكومة المركزية والإدارات المحلية ضمانة لعدم تكرار الإقصاء الذي عانوه طويلاً. فالدولة التي تتسع للجميع هي وحدها التي تبقى، وكل دولة تُقصي مكوناً من مكوناتها تكتب نهايتها بيدها.

   
لكن بناء الثقة بين مكوّنات المجتمع السوري مهمة لا تقلُّ صعوبة عن بناء الدولة نفسها. فالخوف المتراكم عبر العقود، والدماء التي سالت خلال الحرب، جعلت الشكوك عميقة بين المجتمعات السورية المختلفة. ولعل أولى خطوات إعادة الثقة هي المصارحة الصادقة، لا بالشعارات، بل بالاعتراف المتبادل بالمسؤوليات والأخطاء. يجب أن يسمع العرب صوت الكورد وهم يتحدثون عن مظلوميتهم، وأن يسمع الكورد صوت العرب وهم يتحدثون عن جراحهم أيضاً، فكل السوريين كانوا ضحايا نظام واحد، وإن اختلفت درجات الألم. هذا الفهم المتبادل هو الذي يفتح الطريق نحو مصالحة حقيقية لا تقوم على إنكار الماضي، بل على تجاوزه برؤية أخلاقية وإنسانية. إن المجتمع السوري بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، لا يقوم فقط على القانون، بل على الثقة. 

     
لعل ما تحتاجه سوريا الجديدة قبل أي شيء آخر هو إعادة تعريف فكرة الدولة نفسها، الدولة بوصفها بيتاً للجميع لا سلطة على أحد. فالدولة ليست أداة قهر، بل وسيلة خدمة؛ ليست ملكاً للحاكم، بل للشعب. 
   
الدولة السورية الجديدة يجب أن تنشأ على مبدأ العقد الاجتماعي الحر، الذي يجعل السلطة خادمة للمجتمع لا متسلطة عليه. وهذا لن يتحقق إلا عبر دستور عصري يكرّس مبدأ الفصل بين السلطات، وحرية الإعلام، واستقلال القضاء، والمساواة أمام القانون. لا يمكن بناء وطن ديمقراطي دون دولة مؤسسات حقيقية، ودون مواطن يشعر أن القانون يحميه لا يهدده. وحين يشعر المواطن الكوردي والعربي والمسيحي بأن القانون واحد للجميع، وبأن العدالة لا تُفرّق بين أحد، حينها فقط تبدأ الثقة بالعودة، وتبدأ ملامح سوريا الجديدة بالتشكل.

   
إن بناء هذه الدولة لا يمكن أن يتم بمعزل عن إعادة ترميم الوعي الجمعي السوري، الذي أصابه الانكسار بفعل الخوف الطويل والحرب الطويلة. فالمشكلة لم تكن يوماً في تنوُّع السوريين، بل في الطريقة التي استُخدم بها هذا التنوع لتقسيمهم. المطلوب اليوم هو وعي وطني جديد، يتجاوز منطق الغلبة إلى منطق الشراكة، ومنطق الريبة إلى منطق الثقة. وعي يعترف بأن لا وطن من دون كل أبنائه، وأن القومية أو الدين أو اللغة لا يمكن أن تكون سبباً للتمييز بل جسراً للتكامل. فالتنوع هو ما يصنع غنى الشعوب، والاعتراف به هو ما يحمي الأوطان من التفتت. وحين تتحول هذه الفكرة إلى قناعة عامة، يصبح الطريق إلى الوحدة الحقيقية ممهداً، لأن الوحدة لا تُفرض بالقوة، بل تُبنى بالإيمان المشترك.

الرؤية الوطنية الجامعة التي تتجاوز الخلافات التاريخية هي روح المشروع السوري القادم. هذه الرؤية يجب أن تولد من الإرادة السورية، من وجدان الناس البسطاء الذين تعبوا من الحرب والخراب، لا من صفقات النخب أو ضغوط الخارج. سوريا التي نحلم بها يجب أن تكون دولة العدالة الاجتماعية، التي تضمن العمل والتعليم والصحة والكرامة لكل مواطن. دولة المؤسسات التي تُحاسب فيها السلطة لا تُؤله، ويُكرَّم فيها الإنسان لا يُهان. دولة تُعيد للسياسة معناها النبيل، وللوطن هيبته الأخلاقية، وللشعب ثقته بنفسه. وهذه الرؤية تحتاج إلى جيل جديد من القادة المؤمنين بالإنسان قبل الإيديولوجيا، وبالحق قبل المصالح، وبالوطن قبل الذات. 

   
قد يبدو الطريق طويلاً وشائكاً، لكن كل التحولات الكبرى في التاريخ بدأت بخطوة صادقة. والمجتمع السوري، رغم كل الدمار، أثبت أنه قادر على البقاء. فحين تنهار المدن يبقى الإنسان، وحين تموت الأنظمة تبقى القيم، وحين يهرب الطغاة يبقى الوطن شاهداً على من أحبوه بصدق. اليوم، يحتاج السوريون إلى الإيمان مجدداً بأنهم قادرون على صنع معجزتهم، وأن خلاصهم لن يأتي إلا من وحدتهم. فالوطن الذي يتسع للكورد والعرب والمسيحيين والعلويين والآشوريين والتركمان وكل المكونات هو وحده الذي يحق له أن يحمل اسم سوريا. أما ما عداه، فهو مجرد صدى لماضٍ يجب أن يُدفن مع الاستبداد.

قد تكون هذه المرحلة الانتقالية مليئة بالمخاطر، لكنها أيضاً غنية بالفرص. الفرصة أن يتعلم السوريون كيف يبنون دولة على أسس العدالة لا الانتقام؟ والمواطنة لا الغلبة، والحق لا القوة. الفرصة لأن يتحول الكورد من ضحايا التاريخ إلى صُنّاع المستقبل، وأن يتحول العرب من أغلبية مثقلة بالذنب إلى شركاء في العدالة. الفرصة لأن تُكتب صفحة جديدة من تاريخ سوريا، عنوانها الأمل لا الدم، والمواطنة لا الولاء، والديمقراطية لا الخوف.

لقد آن الأوان لأن تُشفى سوريا من نفسها، من جراحها التي طال أمدها، ومن صمتها الذي أضاع الكثير. آن الأوان لأن يتحدث السوريون بصوت واحد، لا نريد وطناً مقسوماً بين الخوف والكراهية، بل وطناً يجمعنا على الحرية والكرامة. 
   
آن الأوان أن يؤمن الكورد والعرب معاً بأن مصيرهم واحد، وأن هذا الوطن ليس غنيمة بل رسالة، وأن العدالة التي ننشدها ليست انتصاراً لفئة على أخرى، بل انتصار للإنسان على القهر، وللحياة على الموت.

وهكذا، حين تلتقي الإرادات الصادقة، ويتراجع الخوف أمام الأمل، وتعلو المصلحة الوطنية فوق كل انقسام، ستولد سوريا من جديد. سوريا التي حلم بها الشهداء والمقهورون والمنفيون، سوريا التي يتساوى فيها الكوردي والعربي أمام القانون، ويتقاسم فيها الجميع الخبز والكرامة، ويشعر كل طفل فيها أن له مكاناً في الغد. تلك هي سوريا الممكنة، سوريا العادلة الحرة، سوريا التي ستنهض رغم كل شيء، لأنها ببساطة لا تعرف أن تموت.

ليفانت: عزالدين ملا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!