الوضع المظلم
الأحد ٢٦ / أكتوبر / ٢٠٢٥
Logo
  • سوريا بعد موسكو.. إعادة رسم التحالفات والكورد في قلب القرار

سوريا بعد موسكو.. إعادة رسم التحالفات والكورد في قلب القرار
زينه عبدي

في لحظة فارقة تاريخياً وفي ظل المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا حالياً، قام الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع بزيارة روسيا في 15 تشرين الأول 2025، في أول زيارة رسمية سورية - روسية بعد هروب الأسد. 
 
تعد هذه الزيارة بمثابة صفحة جديدة في العلاقات الثنائية بين البلدين، إلا أنها تطرح الكثير من التساؤلات العميقة فيما يتعلق بشكل وملامح المرحلة المقبلة. هذه الزيارة لا يمكن اعتبارها مجرد استئناف للعلاقة بين موسكو ودمشق، بل وتعبر في دلالاتها الحدود الدبلوماسية حاملة طابعاً ذات أبعاد استراتيجية وسياسية لاسيما في ظل التوازنات السورية الهشة داخلياً والمعقدة وفي مقدمتها الملف الكوردي كأحد أشد الملفات تعقيداً حالياً. وبين محاولة الشرع لكسب شرعية دولية خلال هذه المرحلة الحساسة وتأكيد دوره في استعادة السيادة، وسعي موسكو لاستعادة العلاقات مع دمشق بغية حماية نفوذها وتقويتها داخل سوريا، يأتي الملف الكوردي كاختبار جاد وحقيقي لمدى قدرة السلطات الانتقالية على الاعتراف بالتعدد والمواطنة المتساوية.
 
إعادة رسم خريطة التحالفات
 
تشكل زيارة الشرع إلى موسكو فرصة لإعادة بناء موقع سوريا وفقاً لأسس تحقق توازنات بين الاستقلالية الداخلية والضرورة لعقد شراكات إقليمية ودولية، وبصورة أوضح خلق بوابة من شأنها تعيد تموضع سوريا من جديد في المشهد الدولي.
 
بعد رحلة من التوترات بين البلدين رافقها غموض كلي، تحاول موسكو جاهدة لتثبيت حضورها ومصالحها سياسياً وعسكرياً، عبر تفاهمات مع السلطات الانتقالية في سوريا بما لا يتعارض مع المصالح الداخلية السورية وعلى رأسها مسألة اللامركزية أو الفيدرالية أو الإدارة الذاتية في مناطق شمال شرق سوريا، لذا تنظر موسكو لهذه الزيارة بكونها استحقاق ذات طابع استراتيجي يخص الحضور الروسي في سوريا الجديدة. بدا تحولاً في خطاب موسكو، يعبر عن إدراك الكرملين بأن الاستقرار في سوريا الجديدة بحاجة صيغة وطرح سياسي يناسب الجميع ومنهم الكورد بالدرجة الأولى، خلافاً للسابق حيث التركيز على مقاربة أمنية خالصة.
 
وفي المقابل، قدّم الشرع نفسه شريكاً متوازناً عبر التصريحات التي أدلى بها في الكرملين بصورة مدروسة وحذرة بعض الشيء. حيث الإيحاء بضبط التوازن بين مطالب الشعب السوري ومصالح موسكو مؤكداً على السيادة السورية بمنأى عن مواجهته بشكل مباشر، وذلك عندما شدد على مواصلة التعاون بين البلدين استراتيجياً داخل إطار الاحترام المتبادل لسيادة الدولتين، ما يوحي بإرسال رسالة مفادها طمأنة روسيا من جانب، والتأكيد على عدم الخضوع لكل ما يمت بصلة لنظام الأسد ورفض تلك التبعية.
 
تعتبر زيارة الشرع لموسكو بمثابة إعادة توازن البوصلة السياسية في سوريا الجديدة عبر تعريف وتجديد التحالفات والتوازنات مع روسيا. هذا المسار مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالملفات الداخلية الأكثر تعقيداً وحساسية ومنها الملف الكوردي الذي يشكل اختباراً حقيقياً حول الانفتاح التام على ضمان المشاركة في صياغة مستقبل سوريا الجديد ومقاربة أكثر توازناً تحفظ حقوق الجميع قانونياً ودستورياً.
 
الكورد في قلب المعادلة الجديدة
 
لابد من التوقف عند الملف الكوردي أثناء الحديث عن استعادة التوازنات بين دمشق وموسكو، الملف الذي صار ركيزة وجزءاً أساسياً في سياق التحالفات والتوازنات والاستقرار الدائم في سوريا. لم تكن زيارة الشرع بمنأى عن هذه الأبعاد الحساسة، إنما برزت كتأكيد مباشر على أن مستقبل العلاقة بين البلدين يتوقف وبدرجة كبيرة على مدى تفاعلهما بإطار واقعي ملموس مع التطلعات الكوردية إدارياً وسياسياً.
 
بات للكورد حضوراً حقيقياً على الأرض لاسيما بعد أكثر من عقد من الحضور الفعلي للإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا مؤسساتياً وأمنياً وعسكرياً، لذا من غير الممكن إقصاء الكورد أو تجاهلهم كما في عهد النظام العفلقي والأسدي، بل ويتوجب التعامل معهم ببراغماتية، وهذا ما تسعى إليه روسيا حالياً عبر محاولاتها في إشراك الكورد في مسار الحل السياسي السوري بمنأى عن إثارة الغضب التركي، بل وتسعى في ذات السياق الضغط على دمشق وإقناعها التام بضرورة دمج المكون الكوردي في بناء سوريا الجديدة لبلورة بنية متينة ومتماسكة تضمن استقرار دائم، لا تهديداً للوحدة السورية أو تفكيكها كما يفسره البعض.
 
يحضر الحذر السياسي في أروقة الملف السوري لاسيما بالنسبة لمسألة الاعتراف بالهوية الكوردية وحقوق الشعب الكوردي، لذا يحرص الرئيس الانتقالي عبر خطاباته العلنية أن هذا الاعتراف يجب تقديمه بإطار جامع لا انفصالي من خلال ترديده لمصطلح اللامركزية المتوازنة، مشيراً إلى إبدائه المرونة التامة في التوزيع العادل بين كافة المكونات، إلا أن الكورد يبدون تشكيكاً وتذمراً حقيقياً من عدم الاستجابة لهذا الاعتراف بالشكل الذي يضمن الاعتراف بهم دستورياً لاسيما بعد مؤتمر الحوار الوطني الإقصائي، وصدور الإعلان الدستوري دون مشاركة فعلية للكورد، وهنا السؤال الذي يطرح نفسه ببعدين متباينين: كيف يعترف بصورة حقيقية بدور الكورد السياسي دون أن يثير غضب المكون الآخر أو الأطراف الإقليمية ذات الصلة؟.
 
تبدي روسيا استعداها كوسيط في قلب هذه المعادلة الدقيقة. فهي على معرفة تامة بأن استقرار سوريا الجديدة يجب أن يتم بصيغة جامعة وشاملة بلا إقصاء أو تجاهل والنأي بسوريا نحو بر الأمان دون الخوض في صراعات وانقسامات جديدة. هذه الزيارة بمثابة بوابة للحوار والتفاوض حول مستقبل القضية الكوردية في سوريا المستقبل التي يفترض بناءها على أسس المواطنة والشراكة، لا المركزية.
 
ردود فعل الكورد
 
أعقبت زيارة الرئيس الانتقالي السوري ردود فعل متباينة داخل الشارع الكوردي، حيث فسّرت مرة أنها بمثابة فرصة للحل السياسي السوري خصوصاً في مسألة الاعتراف بحقوق الكورد ضمن الدستور السوري، والاعتراف بصورة رسمية بالإدارة الذاتية الديمقراطية في مناطق شمال وشرق سوريا وكيفية الدمج المتوازن في المؤسسات الرسمية إدارياً وعسكرياً.
 
في ذات السياق، أظهرت نسبة كبيرة من الكورد سخطاً واستياءً من هذه الزيارة، حيث من الممكن أن تكون إجراءً نحو فرض المركزية على المناطق الكوردية تحت مسمى صفقات متعددة الأطراف أو ترتيبات دولية، ما يشكل تهديداً مباشراً لكل ما اكتسبته الإدارة الذاتية لأكثر من عقد. هذا ما يثير المخاوف لدى الكورد بشكل أكبر، لدى طرح أي حل سياسي سوري، نتيجة ما تعرضوا له من تهميش وإقصاء وتمييز خلال النظام العفلقي والأسدي.
 
وصرحت العديد من القيادات الكوردية، مشددة على ضرورة المشاركة في الحوارات الدائرة حول مستقبل سوريا الجديد بشكل حقيقي وليس رمزي، وأن أي توافق سوري - روسي يفترض أن يأخذ بعين الاعتبار مطالب الكورد على المستويين السياسي والقانوني لتحقيق استقرار داخلي لاسيما في مناطق شمال شرق سوريا.
 
بمعنى، أن الكورد باتوا يتعاملون مع هذه الخطوة بيقظة مزدوجة: من جهة تعتبر فرصة حقيقية لزيادة مساحات المشاركة وإمكانية الاعتراف الرسمي، ومن جهة أخرى تحمل مخاطر جمة في حال غياب ترجمة كافة التفاهمات إلى إجراءات ملموسة على الأرض تضمن وجودهم سياسياً وإدارياً.
 
تتبلور الخلاصة في أن زيارة الشرع إلى موسكو لا تمثل إلا نقطة فاصلة وجوهرية في هيكلة التحالفات وإعادة رسم اللعبة السياسية السورية ورسم ملامح المرحلة المقبلة، مع التركيز على الكورد كطرف محوري في مسار العملية السياسية. المستقبل في سوريا يتركز على مدى قدرة النظام على ترجمة الاتفاقات إلى حيز التنفيذ الفعلي بما يضمن الاستقرار لسوريا الجديدة. فهل ستنجح التفاهمات بين دمشق وموسكو في بلورة صفحة جديدة ترسم ملامح عقد وطني يرسخ الاعتراف بالكورد والشراكة المتبادلة، أم أن التاريخ سيعيد إنتاج المركزية القديمة، وتبقى الوعود مجرد صدى في دهاليز المسار السياسي؟.

ليفانت: زينه عبدي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!