-
الانتخابات ولاوعي القطيع
الانتخابات ولاوعي القطيع
د. جوتيار تمر
اقليم كوردستان 29/10/2025
يشكل الفعل الانتخابي في الأنظمة الديمقراطية لحظة يفترض فيها الوعي، حيث يختار المواطن ممثليه بعقلانية ومسؤولية؛ لكن الواقع كثيراً ما يكشف عن حضور قوي للاوعي الجمعي، أو ما يمكن تسميته بـ"لاوعي القطيع"، الذي يتحكم في خيارات الأفراد أكثر من إدراكهم الحر؛ اللاوعي القطيعي هو تلك الطاقة النفسية الجمعية التي تدفع الناس إلى اتخاذ قرارات متشابهة دون تفكير نقدي، مستفيداً من احتياجاتهم النفسية للأمان والانتماء؛ في سياق الانتخابات، يتجلى هذا السلوك في التصويت على أساس الولاء القبلي ( العشائري) أو الطائفي أو الحزبي، لا على برامج سياسية أو كفاءات واقعية؛ وهنا يتحول الانتخاب من ممارسة عقلانية إلى طقس رمزي يعبر فيه الفرد عن انصهاره داخل الجماعة بشكل اعمى.
الكورد في الإعلان الدستوري السوري بين الاستحقاق وإعادة إنتاج المركزية
تلعب الدعاية الانتخابية ووسائل الإعلام دوراً مركزياً في تأجيج هذه النزعة القطيعية، عبر تسطيح الخطاب وتحفيز العواطف الجماهيرية؛ فبدلاً من النقاش البرامجي، تقدم المواقف بهيئة معارك هوية، ما يجعل الناخب يرى خصومه لا كخيار سياسي آخر، بل كتهديد وجودي؛ وهكذا تتراجع روح النقد، ويهمش التفكير العقلاني أمام إملاءات الانفعال الجمعي.
في النموذج الشرق أوسطي، تتضاعف هذه الظاهرة بفعل تداخل البنى التقليدية مع أشكال الديمقراطية المستوردة؛ فالهياكل الاجتماعية ما زالت محكومة بالانتماء القبلي العشائري والديني المذهبي الطائفي والمناطقي، مما يجعل العملية الانتخابية أقرب إلى إعادة إنتاج موازين القوى التقليدية منها إلى ممارسة سياسية حرة؛ كما أن الخطاب السياسي في كثير من الأحيان يغذي هذا اللاوعي القطيعي، إذ تستثمر الرموز الدينية والذاكرة الجمعية لتوجيه السلوك الانتخابي؛ في ظل غياب وعي مدني راسخ، تتحول الانتخابات إلى ساحة لتصفية الهويات لا لاختيار البرامج، وتستبدل فكرة "المواطنة" بفكرة "الولاء"، فيغيب السؤال عن الكفاءة لصالح سؤال الانتماء.
ويبرز النموذج العراقي وإقليم كوردستان مثالاً دقيقاً لهذه الإشكالية، حيث تتقاطع الديمقراطية الشكلية مع الولاءات الموروثة؛ فالتصويت غالباً ما يتم وفق الانتماء المذهبي أو القومي أو الحزبي والحزبي ينقسم الى قبلي عشائري مناطقي (دوائر) ، والى معارضة مبنية على اللاوعي البرامجي واللاوعي الاصلاحي والخطاب المبني على اخطاء الاشخاص ومهاجمة العوائل الحاكمة، بينما يتراجع الدور النقدي للفرد أمام سطوة الخطاب العاطفي والرمزي؛ وتتحول الانتخابات في كثير من الأحيان إلى تجديد لخرائط النفوذ السياسي، لا إلى منافسة بين رؤى وبرامج إصلاحية؛ وفي غياب مؤسسات مدنية قوية قادرة على إنتاج وعي سياسي مستقل، يستمر اللاوعي الجمعي في توجيه خيارات الناخبين، فتتكرس النتيجة ذاتها: إعادة إنتاج النخبة السياسية نفسها تحت غطاء ديمقراطي شكلي؛ إن ما يفترض أن يكون أداة للتحرر والمساءلة يتحول – في ظل سطوة اللاوعي الجمعي – إلى آلية لإعادة إنتاج الزعامات القديمة وبقاء الأنظمة الفاشلة؛ لذلك، فإن كسر منطق القطيع لا يتم عبر التثقيف الانتخابي فحسب، بل عبر إعادة بناء الوعي الفردي والسياسي القادر على مقاومة الإيحاء الجمعي والرمزية العاطفية؛ فالديمقراطية الحقيقية لا تقوم على عد الأصوات فقط، بل على نوعية الوعي الذي يصوت.؛ما لم يتحرر الناخب من أسر اللاوعي القطيعي، ستبقى الانتخابات شكلاً من أشكال الطاعة الجماعية المتكررة، لا ممارسة للحرية السياسية.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

