الوضع المظلم
السبت ٢٥ / أكتوبر / ٢٠٢٥
Logo
حين يُقصى الكورد تموت فكرة سوريا
د. محمود عباس

إنّ التبرير الذي قدّمه (أسعد الشيباني) وزير خارجية الحكومة السورية المؤقتة، بشأن عدم إدراج عيد نوروز ضمن قائمة الأعياد الرسمية، جاء ساذجًا في مظهره، مخادعًا في جوهره. فقد حاول أن يقدّمه على أنه دعوة للحوار والمشاركة في الحكم، بينما كان في عمقه رسالة مبطّنة تُحمّل الكورد مسؤولية “التناسي” المزعوم بسبب ابتعادهم عن الحوار، وهي ذريعةٌ تُخفي أكثر مما تُظهر، إذ تُمهّد لتكرار التجاهل ذاته في المستقبل، وكأنّ الاعتراف بحقوق الشعب الكوردي مشروطٌ بالولاء السياسي لا بالمواطنة والحقّ التاريخي.
والسؤال السياسي هنا، هل عدم الاتفاق على شكل سوريا القادمة يُبرّر تهميش القضية الكوردية؟ وهل يُعقل أن يُكتب دستورٌ بلغةٍ أحاديةٍ، تُقصي ثاني أكبر قومية في البلاد، بحجّة غيابها أو تغييبها؟ إنّ هذا المنطق يُعيدنا إلى جوهر المشكلة السورية، إلغاء الآخر وتبرير التهميش باسم اللحظة السياسية.
أليس من السذاجة السياسية أن يُنسى الشعب الكوردي، وهو الذي أشعل ضمير العالم بنضاله لعقود، في لحظةٍ يُعاد فيها رسم ملامح الوطن؟ كيف يُمكن تجاهل عيدٍ قوميٍّ عريق كعيد نوروز، الذي تحوّل طوال نصف قرن إلى رمزٍ للمقاومة والكرامة في وجه النظام المجرم البائد، ودُفع في سبيله ثمنٌ من الدم والتضحيات؟
فهل يمكن أن تُبنى سوريا جديدة مشوّهة، بينما الخلاف قائم بين الحكومة الانتقالية والشعب الكوردي، بل ومع باقي المكوّنات الوطنية، حول شكل الدولة القادمة؟ إنّ ما يجري اليوم يعيد للأذهان منهج النظام البعثي نفسه، مع فارقٍ وحيد، أنّ الرفض القديم كان صريحًا فظًّا، بينما الإنكار الجديد مغلّف بالخطاب الدبلوماسي المراوغ.
كان النظام الأسدي البائد لا يخجل من التصريح علنًا بأنّه لا يعترف بالشعب الكوردي، وتعامل معه كعدوٍّ قوميٍّ لا كشريكٍ وطني، فكان الصراع مع النظام صراع وجودٍ لا صراع معارضةٍ سياسية، واليوم يبدو أنّنا أمام الذهنية نفسها، وإن تغيّر الأسلوب وتبدّل الخطاب؛ فالمضمون واحد، والغاية واحدة، الإلغاء بثوبٍ جديد.
إذا كانت نوايا الحكومة الانتقالية صادقة ووطنية حقًّا، فعليها أن تُظهر ذلك بوضوح أمام الشعب الكوردي، لا بخطابات التبرير، بل بخطواتٍ عملية تُعيد الثقة المفقودة، وتردم هوّة الشكّ التي تتسع يومًا بعد آخر. فالتصعيد الإعلامي المتزايد ضد الكورد، الذي تقوده مجموعات مموّلة ومرتزقة فكرية، بعضها مرتبط بالحكومة ذاتها، وأخرى منضوية تحت جناح هيئة تحرير الشام أو تدور في فلكها، لا يمكن تفسيره إلا كمخططٍ لشيطنة الكورد وتوسيع الشرخ بينهم وبين المكوّنات السورية الأخرى.
على أسعد الشيباني أن يدرك أن المصداقية هي أقصر الطرق نحو المصالحة الوطنية، وأنّ الاعتراف بحقوق الشعب الكوردي لا يمكن أن يكون مشروطًا بالخلافات السياسية أو الإدارية. وهو الذي نشأ في قامشلو والحسكة، ووالدته من عائلة كوردية مناضلة معروفة، لا يُعقل أن يجهل رمزية نوروز في الذاكرة الكوردية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس (أحمد الشرع) والوزير الكوردي من عفرين الجريحة، الذين يعرفون نوروز تمامًا ويدركون معنى أن يُمحى عيدٌ قوميٌّ بهذه البساطة من الوعي الرسمي، مثلما يعرفون الشعب الكوردي وقضيته التي تم تغييبها من الدستور، والان يقترحون أن يعاد كتابته ثانية، كعامل ضغط.
إنّ ذرائعهم واهية، ومصداقيتهم غائبة، والاستمرار في هذا النهج لن يؤدي سوى إلى تعقيد الحوار الوطني وزيادة انعدام الثقة. فمقولة الشيباني بأنّ من يطالب بالكلّ في الحوار سيخسر الكلّ، تنطبق عليهم قبل غيرهم، لأنهم يريدون احتكار القرار والتمثيل وفرض الشروط بدلًا من فتح الأبواب أمام حوارٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ مع قسد والحراك الكوردي المستقل.
وإن استمرّ هذا المسار، سواء كان نابعًا من قناعة أيديولوجية متطرفة أو إملاءات خارجية، فلن يُنقذ سوريا من دمارها، بل سيُقصر عمر الحكومة الانتقالية نفسها، ويعيد البلاد إلى دوّامة الصراعات والاقتتال والشكّ.
إنّ سوريا لا تُبنى بالإقصاء ولا بالتبرير، بل بالمصارحة والمواطنة والمصداقية، أي بالاعتراف الصريح والشفاف، وبقناعةٍ وطنيةٍ راسخة، بغربي كوردستان، وضمنها عفرين، كإقليمٍ فيدراليٍ ضمن سوريا اللامركزية، التي ستكون الركيزة المتينة لبناء وطنٍ عادلٍ ومتوازنٍ يحتضن جميع مكوّناته دون استثناء.
فـنوروز ليس عيدًا كوردياً فحسب، بل رمزًا لسوريا الممكنة،
سوريا الحرية والتعدد والكرامة،
سوريا التي يعرفها دستورها قبل أن تعرف نفسها،
سوريا التي لا تُقصي أحدًا من دستورها، ولا تُبنى على النسيان،
بل تُقام على الاعتراف بالآخر، والعدالة، والمشاركة الحقيقية في صنع المستقبل.

ليفانت: د. محمود عباس
 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!