الوضع المظلم
السبت ٢٠ / ديسمبر / ٢٠٢٥
Logo
أحمد الشرع في مرآة الأسد ليست مقارنة، بل فضيحة
محمود عباس

لم يكن تفاديُ أحمد الشرع، الجولاني، في منتدى الدوحة (6–7 كانون الأول/ديسمبر 2025) للمقارنة الحقيقية بين نظامه ومنظومة الأسد زلّة لسانٍ أو ارتباكًا عابرًا؛ بل كان هروبًا متعمّدًا من فضيحة منطقية وأخلاقية لو وُضع فيها المشروعان في كفّة واحدة. فالمقارنة العادلة لا تُعقد بين رجلين، طبيبٍ تحوّل إلى سفّاح دولة، وقائد تنظيم تكفيري تحوّل إلى “رئيس حكومة انتقالية”، بل بين نموذجين في إدارة السلطة: نظامٍ بعثيٍّ استبدادي أسّس لمدرسة الإبادة السياسية، ومنظومة جهادية تتغذّى على الفكرة نفسها: احتكار الحقيقة باسم عقيدة مطلقة، مرّة تحت لافتة “الأمة العربية الواحدة”، ومرّة تحت راية “الفرقة الناجية”.

ولهذا قفز الجولاني بخفّة لاعبٍ، أصبح يتقن دوره في مسرح السياسة إلى مقارنة شخصية بينه وبين بشار الأسد، ليقدّم نفسه كـ “أخفّ الشرّين”، متفاديًا جوهر السؤال:

ما الفارق بين دولة تُدار بخيال الأجهزة الأمنية، ودولة تُدار بظلال الفتوى والسلاح؟

ما الفارق بين تاريخٍ زُوّر لعقود تحت راية البعث، وتاريخٍ آخر يُعاد تزويره اليوم تحت راية “تحكيم الشريعة”؟

بهذه المقارنة المضلِّلة، يسحب أحمد الشرع النقاش من ميدان العدالة إلى ميدان الغلبة، ومن سؤال الشرعية الأخلاقية إلى سؤال “من يملك الميكروفون؟ ومن يكتب التاريخ؟”. وكأن الجريمة تُقاس بقدرة الفاعل على البقاء، لا بحجم الدم المراق ولا بالكارثة التي أصابت المجتمع. إنه المنطق نفسه الذي بنى عليه الأسد شرعيته الزائفة: شرعية البقاء، لا شرعية الحق.

وهكذا، فإن هروب الجولاني من المقارنة الحقيقية لا ينقذه، بل يفضحه. يفضح عقلًا يريد إقناعنا بأن المشكلة في “شخص بشار”، لا في بنية الاستبداد ذاتها. وبأن قدرًا من الهدوء واللباقة في الحوار كفيل بأن يمحو الجريمة الفكرية والسياسية لمشروع يقوم على سلطة النص لا سلطة الإنسان، وعلى الولاء المطلق لا على حرية الفرد.

ومع ذلك، يجب الاعتراف بأنّ أحمد الشرع، كشخص، أفضل بما لا يُقاس من بشار الأسد المتلعثم الفارغ. فالرجل يمتلك قدرًا من الاتزان والأدب والقدرة على الإصغاء، صفات لم يعرفها السوريون في طاغية هشّ، غليظ الطبع، بنى سلطته على الرعب لا على أي قيمة إنسانية. وبينما يمتلك الجولاني لغة منضبطة ومنطقًا فقهيًا متماسكًا، بدا بشار على الدوام كاريكاتيرًا سياسيًا يختبئ خلف المخابرات أكثر مما يحكم بها.

لكن، وهنا بيت الحقيقة القاسية، الإيديولوجيا الدينية التي تتحكم بالجولاني تبتلع شخصيته الفردية، وتذيب ما قد يملكه من صفات محمودة داخل منظومة عقائدية تقدّم النص على العقل، والسمع والطاعة على المواطنة، وتعيد إنتاج الاستبداد بأدوات مختلفة. فالقضية ليست في الرجل وحده، بل في المشروع الذي يحمله، مشروعٌ يمنح نفسه حق الوصاية على المجتمع باسم السماء، ويُخضع الدولة لشروط العقيدة، لا لشروط الإنسان.

ولهذا، ورغم الفارق الأخلاقي بين الرجلين، تبقى الحقيقة أن كليهما وجهان لرذيلةٍ واحدة.

رذيلة السلطة حين تُصنع بالدم، ثم تُقنع الضحايا أن الدم أُريق لأجلهم، رذيلة الحكم الذي يقتل، ثم يكتب على شاهد القبر أنه كان “يحمي الوطن”.

لا أحد يستطيع محو دماء الفلوجة، ولا أشباح الجثث في دير الزور، ولا الدور الصارخ للنصرة في ولادة داعش، ولا الخطوات الأولى للجولاني خلف أبو مصعب الزرقاوي، ولا يمكن طمس جرائم الساحل والسويداء، ولا الاعتداءات على المكوّن المسيحي، ولا سيل التهديدات المتواصلة ضد الشعب الكوردي.

الجولاني اليوم يعيد إنتاج اللعبة نفسها التي مارسها بشار قبل سنوات حين قال بفظاظته المشهودة (هذه جراحة وطنية) شبّه نفسه بالجراح الذي يعود من غرفة العمليات ويداه مغطاة بالدماء، ويدّعي أنه " ينقذ المريض" وهو يبرّر نصف مليون قتيل وملايين المهجّرين ومدنًا تساقطت كأوراق محترقة، اليوم، يكتب الجولاني التاريخ بالطريقة التي يشتهيها، لأنه يمتلك الميكروفون والساحة، تمامًا كما امتلك بشار من قبل الدبابة والمخابرات. يدّعي أنه يحاسب المجرمين، ويتبرّأ من خطاب الكراهية المتفجّر ضد المكوّنات غير السنيّة، ولا سيما الشعب الكوردي، وكأن هذا الخطاب لم يُغذَّ بخطب قادة تنظيمه، ولم ينبت في تربته، ولم يُسقَ بفتاوى المحيطين به.

إن رفضنا لمشروع الجولاني لا ينبع من الخصومة السياسية، بل من قراءة وجودية لخطر جرّ المجتمع السوري من رماد الاستبداد القديم إلى جحيم استبداد ديني. فالمقارنة هنا ليست شكلية، بل كاشفة لطبيعة السلطة حين تُفلت من يد العدالة، سواء لبست بزّة عسكرية أم عمامة شرعية.

ولهذا تبدو المقارنة التي أجرتها (كريستيانا أمنبور) معه في منتدى الدوحة، فخًا وقع فيه بإرادته.

سألته عن تاريخه الإرهابي، وعن تحوّله من مطلوب دولي إلى رئيس (دولة). أجاب بمهارة، وظنّ أن إلقاء اللوم على بشار يكفي ليمحو ماضيه. لكن الحقيقة أبشع.

وفي النهاية، تبقى المعضلة الكبرى أن التاريخ، في سوريا، يُكتب دائمًا خارج الأخلاق، وأن السلطة، حين تُنزع منها العدالة، قادرة على تحويل أكثر الرجال تهذيبًا إلى ظلّ آخر للطغيان.

د. محمود عباس

 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!