-
إدارة العلاقة مع الأمريكان ممكنة.. هكذا قال عباس عراقجي
-
تمهيد: لحظة سياسية فارقة
في خضمّ التحوّلات المتسارعة التي تعصف بالشرق الأوسط، خرج نائب وزير الخارجية الإيراني السابق عباس عراقجي أحد أبرز مهندسي الاتفاق النووي لعام 2015، بتصريح مثير للاهتمام: "إدارة العلاقة مع الأميركيين ممكنة... لكن بشروطنا الوطنية.”؛ تصريحٌ بدا في ظاهره بسيطًا لكنه في جوهره يحمل تحولًا استراتيجيًا في فكر منظومة نظام الملالي إذ يوحي بأن مرحلة العداء المطلق للولايات المتحدة قد تصل إلى نهايتها السياسية أو على الأقل إلى إعادة تعريفها ضمن معادلة جديدة قوامها البراغماتية والمصلحة.. وهذا ليس بجديد على العلاقات القائمة بيد البلدين!!!
بين التحدي والمساومة
منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018 دخلت العلاقات الأمريكية الإيرانية في حرب استنزاف صامتة.. وعلى الجانب الآخر العقوبات الاقتصادية خنقت الاقتصاد الإيراني وتراجعت قدرات النظام على تمويل أذرعه الخارجية، ومع ذلك، لم يُفضِ الضغط إلى انهيار النظام كما كانت واشنطن تتوقع بل دفع طهران نحو مزيد من الاعتماد على قدراتها في عصر الشعب واستنزاف قواه وقمعه في حال ثورته.. وكذلك تكثيف التعاون مع موسكو وبكين.
تصريحات عراقجي هنا تمثل دعوة إلى عقلانية سياسية: فالصدام المستمر يستنزف إيران، والمصالحة المطلقة مستحيلة. بين هذين الحدّين، يقترح عراقجي طريق "إدارة العلاقة" وهي عبارة تحمل في طيّاتها فلسفة البقاء دون تنازل.
بين روحاني ورئيسي: براغماتية متجدّدة
ينتمي عراقجي إلى التيار البراغماتي الذي قاده الملا خاتمي والملا حسن روحاني رئيسا جمهورية الملالي السابقين واللذان قد راهنا على الانفتاح مع الغرب لكسر الحصار الاقتصادي.. غير أنّ صعود الملا إبراهيم رئيسي المدعوم من الحرس الثوري أعاد طهران إلى خطاب المواجهة والعقيدة الثورية.. من هنا يبدو صوت عراقجي اليوم كـ نداء داخل العاصفة تذكير بأن "الواقعية" ليست خيانة للمبدأ بل ضرورة للبقاء في عالم يتغير بسرعة.
إنّ المفارقة في تصريحاته أنه يتحدث عن الانفتاح في وقتٍ يُعاد فيه رسم موازين القوة الإقليمية بعد الضربات الأمريكية الأخيرة، ما يمنح كلماته وزنًا استشرافيًا أكثر من كونها مجرد تحليل سياسي.
إشارات إلى واشنطن... ورسائل إلى الداخل
جاءت كلمات عراقجي بعد سلسلة ضربات أمريكية موجعة ضد مواقع تابعة لإيران في العراق وسوريا واليمن، وفي لحظة تصاعد فيها القلق الغربي من تسارع تخصيب اليورانيوم الإيراني، ومن هنا فإنّ تصريحه يمكن قراءته كـ رسالة مزدوجة:
إلى واشنطن: أن طهران لم تغلق باب التفاهم إن احترمت الولايات المتحدة خطوطها الحمراء.
إلى الداخل الإيراني: أن العناد وحده لم يعد كافيًا في معركة الاقتصاد والبقاء.
ولعل ما أراد عراقجي قوله ضمنيًا هو أنّ النظام الإيراني بحاجة إلى "نافذة تفاوض" تحفظ هيبته وتمنع انفجار الأزمة داخليًا وذلك مخرجا آنيا للنظام من حدة الأزمة الغارق فيها.
سيناريوهات المستقبل
العودة إلى المفاوضات الجزئية:
احتمال تدعمه أوروبا وبعض الأوساط في واشنطن على أساس اتفاق محدود يجمّد تخصيب اليورانيوم مقابل تخفيف جزئي للعقوبات.
إدارة الصراع دون انفجار:
وهو السيناريو الواقعي الأقرب حيث تستمر الاتصالات غير المعلنة بين الجانبين في سلطنة عمان أو الدوحة مع استمرار الضربات المحدودة والرسائل الرمزية.
التصعيد والانفجار:
خطر قائم دائمًا إذا ما تم تفسير تصريحات عراقجي في واشنطن على أنها مناورة لا نية حقيقية وراءها أو إذا تجاوز الحرس الثوري الخطوط الأمريكية الحمراء في الخليج أو سوريا.
بين واشنطن وطهران... المنطقة الرمادية
رغم ما يبدو من تصلّب في المواقف إلا أن كلا الطرفين لا يريد حربًا؛ الولايات المتحدة مثقلة بملفّات كبرى في أوكرانيا وتايوان، وطهران تواجه ضغطًا شعبيًا واقتصاديًا متصاعدًا لذلك يجد الجانبان نفسيهما فيما يسمى بـ المنطقة الرمادية لا حرب ولا سلام لا قطيعة ولا مصالحة..، وفي تلك المساحة الضبابية تكمن "إدارة العلاقة" التي تحدث عنها عراقجي" سياسة تقوم على التفاوض الصامت والاختبار المتبادل للنوايا.. لا على البيانات الصاخبة أو الصدام المباشر."
الخاتمة: إيران بين البراغماتية والبقاء
تمثل تصريحات عباس عراقجي لحظة كاشفة في مسار السياسة الإيرانية.. فهي تعبّر عن وعي جديد بأن بقاء النظام لا يمكن أن يقوم على الشعارات الثورية وحدها بل على القدرة على المناورة وإدارة الأزمات بذكاء.. ففي ظلّ العقوبات الخانقة والتغيرات الإقليمية، تبدو طهران أمام خيارين لا ثالث لهما: فإما الانفتاح المشروط على واشنطن أو الاستمرار في عزلة تُنذر بانهيار بطيء من الداخل وربما يدرك قادة إيران اليوم أنّ التاريخ لا يرحم من يتأخر عن لحظة التغيير، وأنّ إدارة العداء أصعب وأهم من إدارته بالحرب.
رؤية تحليلية
إنّ خطاب عراقجي يرمز إلى بداية تحوّل في المزاج السياسي الإيراني نحو ما يُسمّى بـ "الواقعية الدفاعية" أي الانفتاح التكتيكي للحفاظ على النفوذ الاستراتيجي.. وأنه لم يعد "فن البقاء في خطاب النظام الإيراني في الشعارات بل في هندسة التوازن بين المقاومة والانفتاح."، وبناءً عليه يتضح لنا أنّ عبارة عراقجي "إدارة العلاقة ممكنة" ليست مجاملة دبلوماسية بل إنما هي إعلان عن مرحلة جديدة قد يُعاد فيها تعريف الخلاف الأمريكي الإيراني المُستعرض على أسس جديدة.
د. سامي خاطر/ أكاديمي وأستاذ جامعي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

