الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / أغسطس / ٢٠٢٥
Logo
  • كيف نُسقط مشروع الإلغاء العنصري ونبني سوريا التعددية؟

كيف نُسقط مشروع الإلغاء العنصري ونبني سوريا التعددية؟
د. محمود عباس

توضيحًا لما نوهت إليه باختصار في المقال السابق (هل هناك فخ في حوارات باريس؟) أجد من الضروري تعميق القراءة في خلفيات ما يُراد تمريره سياسيًا من خلال الحوارات الجارية، وما يجب على القوى الوطنية، وفي مقدمتها الحراك الكوردي، والإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أن تتمسك به لإفشال هذا المخطط، ففي جوهر ما يُطرح اليوم، تتضح نوايا إجهاض المشروع الفيدرالي، والعودة بسوريا إلى مركزية استبدادية، ولكن هذه المرة بلبوس إسلاموي تكفيري.

إن التمسك التام بالمطالب التي عرضها ممثلو الإدارة الذاتية وقائد قوات قسد، والتي ترتكز على إقامة نظام فيدرالي لامركزي سياسي، أو ما يماثله، هو السبيل الوحيد لإفشال المخطط المطروح من قبل الحكومة الانتقالية التي تمثل الوجه السياسي لهيئة تحرير الشام، أي النصرة تحت قناعها الجديد، هذه المطالب لا تنبع فقط من منطق حقوقي أو وطني، بل هي جزء من رؤية تحظى بدعم واضح من قوى التحالف الدولي، وعلى رأسها أغلبية الإدارة الأمريكية، رغم محاولات مبعوثها توماس بارك فرض صيغة منحازة تتناقض مع التصريحات الرسمية لوزارة الخارجية الأمريكية، والكونغرس الذي ما زال يُمدد "قانون قيصر"، تعبيرًا عن عدم ثقته بأي نظام مركزي جديد يحمل ملامح إسلامية متطرفة.


 ولا ننسى الدور الفرنسي الحيوي، الذي يمثل إلى حد كبير التوجه الأوروبي العام، في دعم مشروع الإدارة الذاتية وقوى قسد. لقد سعت فرنسا، رغم التحديات الدبلوماسية والضغوط الإقليمية، إلى احتضان الحوارات الجارية في باريس، ليس فقط كمنصة للنقاش، بل كحائط صد سياسي يخفف من وطأة الهجمة التي تقودها تركيا وبعض القوى الخليجية ضد الطرف الكوردي. هذا الدعم الفرنسي لم يكن محض مجاملة دبلوماسية، بل جاء في سياق إيمان أوروبي متنامٍ بأن أي حل مستدام في سوريا لا بد أن يمر عبر بوابة الاعتراف بالتعددية، والقبول بالفيدرالية كإطار إنقاذي، والقطع مع الأحادية القومية والمذهبية التي قادت البلاد إلى الكارثة. لذا، فإن الدور الفرنسي يُعد في هذه المرحلة ركيزة استراتيجية للضغط على الأطراف المتآمرة، وتحقيق توازن ضروري في ميزان القوى داخل طاولة المفاوضات.


أما البنتاغون، فعملياته الميدانية المستمرة، والدعم العسكري واللوجستي لقوات قسد، وتخصيص ميزانيات ضخمة لها، تؤكد على موقف واضح لا ينسجم مع ما يحاول تمريره المبعوث الأمريكي، وعليه، فإن الموقف الصامد لوفد الإدارة الذاتية، ممثلًا بالسيدة إلهام أحمد، وقائد قوات قسد الجنرال مظلوم عبدي، وقادما بنود المشروع الذي ستحمله الهيئة الكوردية المنبثقة عن كونفرانس قامشلو، هو ركيزة أساسية ليس فقط لإفشال المؤامرة، بل لتحويل الحوارات إلى فرصة انتصار ليس فقط للشعب الكوردي بل لسوريا بأكملها.


المسيرة ليست سهلة، بل معقدة وشائكة، رأس الحربة في هذا المخطط هي حكومة الجولاني، المسماة بالحكومة السورية الانتقالية، وهي اليوم الذراع السياسي لتيار تكفيري متشدد، تدعمه تركيا، وتخطط له بالتوازي مع السعودية وقطر، وتغطيه دبلوماسيًا ضغوطات المبعوث الأمريكي، لكن جوهر هذا التكتل لا يستهدف فقط الشعب الكوردي في غربي كوردستان، بل يحمل رُهابًا من احتمال انتقال هذه التجربة الديمقراطية، تجربة الإدارة الذاتية، ومنهجية النظام اللامركزي السياسي، إلى داخل تركيا، لذلك، تمضي حكومة أردوغان منذ سنوات في مشروع إقليمي هدفه الأول القضاء على قسد، وعزل الإدارة الذاتية، وتفكيك قوات حماية الشعب وقوات حماية المرأة، بهدف قطع الشريان القومي والسياسي والاجتماعي للمجتمع الكوردي، وتحويله إلى مجتمع معزول، فاقد للحماية والشرعية الدولية، لتتم إعادة توصيفه كمجموعة مهاجرين بلا تاريخ، كما كان يروج له البعث وأيتامه.


اليوم، تعيد حكومة أردوغان عبر "حكومة الجولاني" بث هذه الفكرة بأدوات ميدانية، وبدعم دبلوماسي مشبوه، فهي تحاول خلط الأوراق عبر صناعة تحالفات لا تمت إلى المنطق الوطني السوري بصلة، وتقديم الكورد كمشكلة وليس كجزء من الحل، وإن تمكنت من تمرير هذه الرؤية، فستكون قد حجّمت القضية الكوردية، وربطتها بحركات متطرفة، وجرّت معها حقوق بقية مكونات سوريا إلى المقصلة، ليُعاد إنتاج سلطة أكثر تطرفًا من النظام البعثي.


وما يزيد الطين بلة، أن بعض القوى الدولية، وفي مقدمتها بعض أجنحة إدارة الولايات المتحدة الأمريكية، تتعامل مع المشهد من زاوية براغماتية آنية، فبدلًا من دعم القوى الديمقراطية الكوردية والعلمانية، لجأت إلى تحريك الإسلام السني الراديكالي المتطرف في مواجهة أدوات إيران، وكان لا بد منه كمرحلة انتقالية يجب أن لا تتجاوز الحدود المرسومة لها، هذا التكتيك الخطير يقلّل من أهمية تركيا كحليف ليبرالي-إسلامي، خاصة بعد تحالفاتها المعروفة مع إيران وروسيا خلال العقد الأخير، وهو ما خدم عمليًا النظام السوري وحلفاءه في مواجهة قوى الثورة الحقيقية، لا سيما القوى الكوردية.


هذا التحوّل البراغماتي في استراتيجية واشنطن، والذي يلقى دعمًا ضمنيًا من إسرائيل، يهدف إلى ضرب نفوذ طهران، لكنه يمر عبر نفق مظلم، يتم فيه تأهيل حركات سلفية كانت إلى الأمس القريب على قوائم الإرهاب. فكيف يمكن لدولة مثل أمريكا، وهي تعلم بدقة تاريخ النصرة وهيئة تحرير الشام، أن تدفع بمبعوثها ليجتمع بحكومتها السياسية ويعرضها كبديل محتمل في دمشق؟! ألا تعلم هذه الإدارة أن "الجولاني" ورفاقه، هم أبناء المدرسة التي أنتجت 11 أيلول؟ أم أن الذاكرة باتت ترفًا سياسيًا؟


لكن، لنكن واقعيين، لا يمكن للولايات المتحدة، ولا لإسرائيل، ولا لأي دولة أوروبية، أن تقبل بحكومة تكفيرية على حدودها أو على مقربة من مصالحها، لن تكون هناك شرعية لحكومة كهذه في المدى الطويل، ولا يمكن للعقل الغربي أن يتقبل فكرة أن البديل عن البعث هو "القاعدة المُعدَّلة" لذا، فإن التمسك بالمطالب الكوردية ليس دفاعًا عن قضية جزئية، بل هو الدفاع الحقيقي عن مشروع سوريا الجديدة، بل ودفاع عن الأمن الأمريكي والأوروبي وإسرائيل.


إن بقاء الوفد الكوردي في الحوارات، وتكرار التأكيد على الفيدرالية كحل وطني جامع، وعدم المساومة على اللامركزية السياسية، هو الصخرة التي قد تتكسر عليها هذه المؤامرة، لا سيما وأن كل من الإدارة الذاتية وقوات قسد يمثلان مشروعًا سوريًا جامعًا، وليس مشروعًا قوميًا ضيقًا، وهم اليوم الحصن الأخير لسوريا التعددية، العلمانية، الديمقراطية.
ومن هنا، نوجه رسالتنا بوضوح إلى كافة دول التحالف:


إن خطر الإسلام الراديكالي السني، المُجسّد حاليًا في "حكومة الجولاني"، لا يقل إطلاقًا عن خطر المشروع الإيراني وأذرعه في المنطقة، بل في بعض جوانبه، قد يكون أكثر دهاءً وفتكًا، لأنه يستهدف إعادة صياغة المجتمعات باسم الدين، وخلق نسخة متوحشة من الدولة، تغتال الفرد من داخله قبل أن تهاجم جسده، وإن تمادت الإدارة الأمريكية في هذا الاتجاه، فستجد نفسها أمام كوارث لا تقل عن 9/11، وقد تنتج نسخة أكثر سوداوية منها في أوروبا أو حتى في قلب واشنطن.
لذلك، لا مناص من دعم القوى الديمقراطية الحقيقية، من قوات قسد، وقوات الحماية الشعبية، والبيشمركة، وقوات حماية المرأة، لأنها لا تمثل الكورد فحسب، بل كافة مكونات الشعب السوري، هذه القوى هي الأمل الباقي لإنقاذ ما تبقى من سوريا، ولمنع سقوط المنطقة في فخ الظلام والتكفير.

د. محمود عباس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!