الوضع المظلم
الثلاثاء ١٩ / أغسطس / ٢٠٢٥
Logo
بيشمركة روژ.. الدرع الكوردي المنتظر
عزالدين ملا

ليس في الذاكرة الكوردية الحديثة في سوريا، اسمٌ حظي بانتظار مصحوب بالقلق والأمل مثل (بيشمركة روژ). هؤلاء الجنود الذين حملوا على أكتافهم ليس فقط بنادقهم وأعلامهم، بل حملوا حلماً مؤجلاً عبر سنوات تعاقبت على جغرافيا الكرد في الجزء الكوردستاني الملحق بسوريا، سنوات استُنزِفت بين خرائط الآخرين. 

 
تأسست قوات بيشمركة روژ في عام 2012 بقرار من الرئيس مسعود بارزاني، صاحب الرؤية الواقعية بأن الكورد لا يملكون ترف البقاء بلا قوة نظامية مُدربة ومحترفة في قلب هذا الشرق الهائج. جاءت قوات بيشمركة روژ ثمرة اتفاق صريحٍ بين إرادة كوردية أصيلة وحاجة استراتيجية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أدرك بدوره أن حماية الاستقرار يبدأ من حماية الأرض وأهلها الأصليين.

   
لم يكن تأسيس بيشمركة روژ فعلاً تكتيكياً عابراً، ولا رفاهية عسكرية وسط أمواج الفوضى الهائجة. لقد كانت هذه القوات منذ لحظتها الأولى مشروعاً استراتيجياً لربط ما انقطع من أوصال الجغرافيا الكوردية، وإعادة بث الروح في فكرة كانت قد أصابها الوهن تحت وطأة التجاهل والخذلان، أن يكون لكورد سوريا درعٌ وسيف، وألا يكونوا مجرد أرقام في مفاوضات الآخرين.

تأسست هذه القوات حين اجتاح زلزال الربيع العربي خرائط سايكس-بيكو الهشة، تاركاً الأقليات والأمم غير المكتملة تبحث في ركام العواصم عن ملاذ يحمي الذاكرة من النسيان. في تلك اللحظة، قرأ البارزاني الرمز والقائد المشهد بحدسِ من خبر الخيانات والتقلبات، الكورد السوريون الذين عانوا الحرمان من الهوية لعقود، يحتاجون أكثر من شعارات، يحتاجون سلاحاً شرعياً، وتنظيماً منضبطاً، وهيكلاً متيناً يضمن ألا تبتلعهم ماكينة الصراع الأهلي أو توظفهم أجندات خارجية تنتهي ببيعهم في المزاد.

 
منذ تأسيسها، لم تكن هذه القوات مجرد فرقة عسكرية تصطف في استعراضات المناسبات القومية. بل تحولت إلى مدرسة صامتة في الصبر الاستراتيجي، إلى قوة تتدرّب بانتظام تحت إشراف مستشارين وخبراء من قوات التحالف، لتكون جاهزة دائماً للحظة لم تأتِ بعد. ومع أنّ رصاصها اختبر ميدان القتال ضد داعش في جبهات الموصل وكركوك وشنكال، إلا أنّ يدها ظلت مرفوعة عن الأرض السورية، وكأنها تُبقي ذخيرتها ليوم تتغير فيه موازين القوى، وتُفتح فيه أبوابٌ أُغلِقَت طويلاً.
   
مع انقضاء عقد ونصف تقريباً من الزمن على ولادتها، يفتح سقوط نظام بشار الأسد الباب واسعا أمام سؤال مركزي في الشارع الكوردي من الجزيرة إلى كوباني وعفرين، متى يعود أبناؤنا في قوات بيشمركة روژ إلى ديارهم؟ إنّه سؤال لم يعد مجرد حنين لجناحٍ عسكري غائب، بل أصبح سؤالا عن الضمانة والقدرة على تثبيت المكتسبات.

لأن الحقيقة التي لا تُحجب بغربال الأمنيات، أن بيشمركة روژ ليست مشروعاً محلياً مغلقاً، بل رهانٌ إقليميٌ مغطى بشرعية دولية لم تتصدع رغم تغير الإدارات الأمريكية وتبدل الأولويات. هي قوةٌ وُلدت لتقول إنّ استقرار كورد سوريا ليس شأناً داخلياً فحسب، بل هو جزء من هندسة التوازنات في الشرق الأوسط، تحت عين أربيل وواشنطن وشركائهما في التحالف.

   

نحن اليوم أمام مفترق طرق لا يقبل التهرب من الخيارات. فإما أن تدخل بيشمركة روژ في قلب الدولة السورية الجديدة، وإما أن تُرفع كشُعلةِ طوارئ حين يتهدد أمن الأرض ويُستباح الإنسان.
 

لذلك اعتقد أن هناك مسارَيْن لدخول قوات بيشمركة روژ إلى أرض الوطن، المسار الأول هو الاندماج لتثبيت شراكة قومية داخلية، إذا ما نجحت الأطراف الراعية للتسوية في دمشق وعواصم الدول المعنية بالشأن السوري وفي الكواليس البعيدة في إعادة صياغة الجيش السوري ليكون لكل مكون حصته وتمثيله وضماناته، فإنّ بيشمركة روژ ستكون القطعة الذهبية التي تعيد التوازن للمعادلة. ستتناغم مع قوات سوريا الديمقراطية، أو ربما تكون نواة لتشكيل وحدات نظامية مختلطة تعكس واقع الأرض الكوردية، قوة نظامية مرنة تتحرك ضمن مؤسسات الدولة وتحمي المكتسبات في الجزيرة وكوباني وعفرين، وتمنع عودة خطاب التهميش أو محاولات تذويب الهوية القومية.

   

إنّ مشاركة قوات بيشمركة روژ في إعادة بناء الجيش الوطني تعني ببساطة نقل ثقل الحلم الكوردي من هامش المعارضة المسلحة والفصائل المتفرقة إلى قلب مؤسسة عسكرية رسمية، تحفظ توازنات الداخل وتفرض على الخارج احترام حقيقة أن للكورد في سوريا يداً على الزناد إذا ما اقتضت الضرورة.
   أما المسار الثاني فهو درع الاستقرار إذا انفلتت الفوضى، أمّا إذا خذلت التسويات أصحابها، وانزلق الشمال الشرقي أو الوسط إلى دوامة التنافس الدموي بين مراكز النفوذ العشائري والعابر للحدود، فإنّ بيشمركة روژ لن تقف مكتوفة الأيدي. عندها، ستصبح هذه القوة خط الدفاع الأخير أمام انهيار الجغرافيا الكوردية تحت ضربات المشاريع البديلة أي الفوضى المذهبية أو عودة خلايا الإرهاب المتخفية أو تسلل الأجندات العابرة التي لا ترى في كورد سوريا إلا ورقة تفاوض إضافية.

في هذا السيناريو، اعتقد ان بيشمركة روژ ستمارس دورها التاريخي كما فعلت البيشمركة في كركوك وسنجار، حين أوقفوا زحف داعش وأعادوا رسم حدود الدم بدمائهم. سيكونون رأس رمحٍ لتحالف دولي حذر من عودة الفوضى، وستكون رسالتهم واضحة، هذه الأرض محمية بقرار كوردستانيٍ- دولي، فلا تجربوا العبث بها.

حين تقرأ تفاصيل التدريب والتسليح والشبكات الدبلوماسية التي أُنسِجَت حول قوات بيشمركة روژ تدرك أن هذا المشروع أبعد من كونه معسكراً وبدلات عسكرية. إنه رهان طويل على أن الكورد إذا امتلكوا القوة النظامية امتلكوا حق الجلوس بندية على طاولة لا مكان فيها للضعفاء.

ولهذا بقيت رسائل أربيل واضحة، أنتم لستم وحدكم. من يظن أن بيشمركة روژ صارت من الماضي لا يفهم أن الأوطان التي لا تحرسها البنادق العاقلة تُحرسها البنادق المرتجلة، وأن في الإقليم قيادة تعرف كيف تتحمل مسؤولية شقيق سوري ما زال يفتح أبوابه لأحلامه.

   

علينا أن نعلم، أنه ما من قوة تنتظر إلى الأبد، وما من حلم يظل معلقاً في هواء الوعود. إنّ قوات بيشمركة روژ التي نضجت في معسكراتها البعيدة، وتشبعت من روح مدرسة البيشمركة الأم، التي رضعت ونهلت من مدرسة البارزاني الخالد، تعرف أن ساعة الحقيقة قادمة. ساعةٌ سيدخلون فيها المدن التي طالما حلموا بحمايتها، يرفعون علماً واحداً فوق سماء الجزيرة وكوباني وعفرين.

 

قد لا يكون ذلك الغد القريب، لكنّ ساعة التاريخ لا تقفز إلا حين يطرقها الصبر والإرادة معاً. وحين يحدث ذلك، سيفهم العالم أن بيشمركة روژ لم تكن قوة احتياطيةً للاستهلاك السياسي، بل كانت نواة حلم قيد الإنجاز، مشروعا يحرس ذاكرة ويُبقي الحلم حيا مهما طال الطريق.
هكذا فقط يقرأ الكورد بيشمركة روژ. وهكذا فقط تُصان الأرض ويحيا الحلم.

ليفانت: عزالدين ملا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!