الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٥ / نوفمبر / ٢٠٢٥
Logo
السعودية ليست دولة تبحث عن مكان… بل دولة صانعة للمكان
إبراهيم جلال فضلون

 

د. إبراهيم جلال فضلون

منذ أن التقت رؤية الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- بحكمة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، بدأت ملامح علاقة استثنائية تتشكل بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، علاقة تجاوزت بُعدها السياسي والاقتصادي الأولي؛ لتتحول إلى شراكة إستراتيجية راسخة، تقوم على الثقة المتبادلة وتلاقي المصالح، وتثبت قدرتها على التجدد والتكيّف مع تحولات العالم وتحدياته المستمرة، التي وصلت لضعف الفيدرالي الأمريكي وأزمته الاقتصادية مع إدارة البيت الأبيض، وحاجتهما لمنقذ لا يكون إلا بحجم السعودية، فجاءت بزيارة لا تهاب الحجم الأمريكي ولا رئيس شعبوي كترامب وساكني البيت الأبيض الذين اعتادوا الحدية مع ضيوفهم، ليعودوا لحجمهم بزيارة عنوانها: السعودية اليوم ليست دولة تبحث عن مكان… بل دولة صانعة للمكان. فزيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لم تكن مجرد حدث رسمي عابر، بل كانت لحظة مهمة تعكس مكانة السعودية كشريك استراتيجي لا يمكن تجاهله في الحسابات الأميركية، سواء على الصعيد الإقليمي أو الاقتصادي أو الدولي. بما صاحبها من استقبالات رسمية ومنتديات استثمارية واتفاقيات كبرى، لم تكن مجرد محطة بروتوكولية بل لحظة حاسمة تعيد تثبيت السعودية عالمياً، على مدار أكثر من 92 عامًا، ظلا ينسجان شبكة مصالح تتجدد بتجدد التحديات. هذا المسار التاريخي لم يكن نمطيًا؛ فقد شهدت العلاقة تحوّلات متبادلة مع تحولات النظام الدولي، ومع كل مرحلة، كانت المملكة تثبت أنها ليست مجرد شريك تقليدي، بل محور استقرار إقليمي، وميزان قوة في لحظة عالمية متقلبة.

إن الاستقبال الحافل الذي حظي به الأمير محمد بن سلمان يرسّخ اعتراف سياسي أمريكي بوزن رجل يملك حضورًا استثنائيًا ورؤية واضحة وقدرة على خلق التغيير - الذي تضمن مراسم شرفية وطلعات جوية وعروضًا عسكرية تقليدية على الساحة الأميركية -. ظهر من الاهتمام المتبادل بالمصالح الاستراتيجية: أمن الطاقة والاستقرار الإقليمي من جهة، وفرص استثمار وتجديد صناعي وتقني من جهة أخرى. زيارة الأمير إلى واشنطن تأتي في هذا الإطار: تأكيد أن الشراكة تتجاوز التوافق الظرفي لتصبح مشروعا عمليًا للتعاون طويل الأمد، رسخته شخصية ولي العهد الصلبة التي أثبتتها مواقف عديدة في السياسة والاقتصاد، وتجعل من كل تحرك له جزءًا من سياق دولي لا يمكن تجاهله. وفي هذه الزيارة، بدا ذلك واضحًا: استقبالٌ يُقرأ بعيون السياسيين كما يُقرأ بعيون المستثمرين، ويكشف حجم الرهانات الأمريكية على الدور السعودي، وحضور كبار رجال الأعمال والرؤساء التنفيذيين لشركات أميركية رائدة إلى جانب فعاليات منتدى الاستثمار السعودي-الأميركي يجسّد هذا التعانق بين الدبلوماسية والسياسة والاقتصاد، ويضع الولايات المتحدة في موقع الشريك المنفتح على تدفقات رأسمالية ضخمة ومشاريع صناعية وتقنية استراتيجية

من زاوية السلوك السياسي والتحليل النفسي، تظهر شخصية الأمير محمد بن سلمان كقائد يتحكم في إيقاع حضوره، كنموذجً يشرح تمايز الأسلوب السياسي السعودي عن الأساليب الشعبوية المتوترة التي تظهر أحيانًا على الساحة الأمريكية، خاصة في الخطاب الإعلامي والسياسي لبعض الشخصيات، محولاً كل لقاء إلى منصة تنفيذية للرؤية، بينما تميل الشعبوية التصادمية إلى التصعيد والانفعال، يبدو أسلوب قيادة ولي العهد قائماً على مزيج من الحنكة التكتيكية والوضوح الاستراتيجي والقدرة على ضبط المشهد، بهدوئها وثباتها تحمل رسالة مزدوجة: (قدرة على إدارة الخلاف دون صدام، وعلى فرض الحضور دون ضوضاء).. هذه النظرة السلوكية لا تنتقص من الجوانب الشخصية لأحد الطرفين، بل تشرح كيف أن استراتيجيات التواصل الهادئة والمنهجية قادرة على تحويل اللقاءات من مجرد طقوس إلى فرص تفاوضية فعلية أثمرت التزامات واتفاقيات كبرى، كان ركيزتها لغة الأمير محمد بن سلمان وتفوّق أسلوب المملكة الذي لم يقتصر على لغة الحوار فحسب، بل تجاوزه إلى قدرة على تقديم بدائل اقتصادية وحلول استثمارية جعلت واشنطن تستجيب عمليًا بأدوات سياسية وتجارية ملموسة؛ لقدرات المملكة الواقعية ذات التأثير في القرار الأمريكي خلال السنوات الأخيرة كونها المنقذ الأوحد للسقطات الاقتصادية الفيدرالية الأمريكية.

كانت الأدلة حاضرة في الميدان الاقتصادي بالإعلان عن حزم استثمارية ضخمة ووعود ببرامج شراكة تستهدف مئات المليارات يكشف عن رغبة سعودية في توجيه جزء كبير من رصيدها المالي نحو بناء شراكات إنتاجية في الولايات المتحدة، لا فقط كوضع أصول مالية عابرة. فالسعودية، عبر صندوق الاستثمارات العامة وبرامج التحول الشامل، أصبحت أحد أهم مصادر الاستثمار الدولي المؤثر في الولايات المتحدة بحزمة قيمتها نحو 600 مليار دولار تشمل استثمارات ومشتريات من القطاعين العام والخاص، -بقدراتها النفطية والطاقوية – عبر شراكات سابقة بين أرامكو وشركاء أميركيين بصفقات مبدئية قد تصل إلى عشرات مليارات الدولارات في مجالات الطاقة والتقنية. ولعلّ الاتفاقيات التي وُقّعت خلال المنتدى السعودي–الأمريكي تعكس ذلك بوضوح، إذ انتقلت العلاقة من مجرد تبادل تجاري إلى شراكة استراتيجية في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقة والفضاء والمعادن، هذه المعطيات لا تُقرأ كإنفاق استهلاكي بل كخطة لتوطين تقنية وصناعية وخلق جسور اقتصادية متينة.

حملتها الزيارة وتجاوز صداها واشنطن إلى تل أبيب، هذه الزيارة لا تُقرأ حرفيًا، بل تُقرأ سياسيًا واقتصاديًا ونفسيًا واستراتيجيًا. إذ ترصد تحليلات عدة شعورًا إسرائيليًا متزايدًا بالقلق من تعاظم النفوذ السعودي في مفاصل القرار الأمريكي. حيثُ أثبتت السعودية أنها ليست مجرد دولة تملك الموارد، بل دولة تملك القرار، وتملك الرؤية، وتملك الجرأة على تنفيذها. وفي عالم مليء بالاضطرابات، يصبح وجود قيادة قادرة على تحويل التحديات إلى موارد قوة عنصرًا يصنع الفارق، فكلما تعمّقت العلاقة بين الرياض وواشنطن، كلما أصبحت السعودية شريكًا أعلى تأثيرًا في قضايا الأمن الإقليمي، وهو ما يعيد تشكيل الحسابات الإسرائيلية ليست فقط تجاه السعودية، بل تجاه المنطقة بكاملها. ولأول مرة منذ عقود، يصبح القرار الأمريكي في الشرق الأوسط محكومًا بميزان مصالح جديد تُعدّ الرياض فيه أكثر أطرافه ثِقلاً.

ويستطيع المراقب أن يرى كيف أن الرياض باتت مرجعية اقتصادية ومقر إقليمي لكبرى الشركات العالمية، ومقر اكبر القمم والمنتديات الاقتصادية وغيرها، إذ يمكن أن تساهم في سد بعض الفجوات التي تشعر بها واشنطن — من تمويل مشاريع تنموية إلى دعم سلسلة إمداد للطاقة والاستثمار في قطاعات حيوية. حيثُ سترفع المملكة استثماراتها في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تريليون دولار، (ما يعادل 3.75 تريليون ريال) منوهاً إلى أن المملكة لا تستثمر في فرص وهمية لإرضاء أمريكا، بل في فرص حقيقية في مجالات عدة كالرقائق والذكاء الاصطناعي. كما أن هذا الوضع يعطي السعودية قدرة إضافية على النفوذ في ملفات إقليمية حيث تصبح مواقفها «مؤثرة» أمام صانعي القرار الأميركيين.

إنها الشخصية السعودية التي أشارت لمكانة وترتيب العلاقة مع الولايات المتحدة والتي لا يمكن استبدالها، ليقولها ولي العهد أنها دخلت فصلاً جديداً رائعاً مع قدوم الرئيس ترمب، ونحن بحاجة لاستخدام القدرة الحوسبية الهائلة على المدى البعيد، وسنوكل هذه المهمة إلى القطاع الخاص الأمريكي، ليكون ترجمتها بقوله -حفظه الله-: لا حدود لتعاوننا مع الولايات المتحدة في الطاقة والذكاء الاصطناعي وسلاسل الإمداد، ونحن في المدى القريب سنضخ 50 مليار دولار لاستهلاك الرقائق في المملكة.

يظهر من التحليل النفسي المقارن بين شخصيتي الأمير وخصوم طريقة الحكم الشعبوية يبيّن بعض الفروقات الجوهرية: الأولية لدى ولي العهد هي خطة طويلة المدى مبنية على رسم مستقبل اقتصادي وسياسي، إذ تحمل زيارة ولي العهد رسالة مزدوجة: أولًا، أن السعودية دخلت مرحلة جديدة من الفاعلية الاقتصادية والسياسية التي تتجاوز أدوار المورد التقليدي للموارد إلى شريك صناعي واستثماري وتكنولوجي؛ ثانيًا، أن مهارات القيادة الاستراتيجية -المتمثلة في القدرة على إدارة الصورة العامة، وقراءة النفوس، وتقديم اتفاقات عملية - جعلت من المملكة لاعبًا حاسمًا في ساحة تُحكمها الآن الشبكات الاقتصادية بقدر ما تحكمها الاستراتيجيات العسكرية والسياسية. بينما تتسم أنماط أخرى أمريكية بردود فعل أسرع وأكثر إثارة للرأي العام، وهو ما قد يكسبها حضورًا إعلاميًا لكنه يقلّص فعاليتها في بناء شبكات استثمارية واستراتيجية معقدة.

هذا الفرق ينعكس في نتائج اللقاءات؛ فأسلوب هادئ ومدروس يفضي إلى اتفاقات تتجاوز القصيرة المدى، في عصر يتطلب مرونة سياسية وجرأة اقتصادية، بينما الخطاب الشعبوي قد يحقق نتائج عرضية لكنّها أقل تأصيلاً، ويثبت أن مواقع النفوذ تُصنع بالقرارات والإجراءات أكثر من الصور والعبارات الرنانة.. فلا حاجة هنا للإشارة إلى نقائص شخصية؛ فالهدف هو قراءة أثر الأسلوب على صناعة القرار، فالسعودية لا تسعى للاعتمادية بل للشراكة الفاعلة؛ كقوة استقرار واستثمار، هذا واقع يجب أن تلتقطه الصحافة بوضوح، لأن قراءة هذا المشهد اليوم قد تحدد ملامح السياسات الاقتصادية والاستراتيجية للسنوات المقبلة — في واشنطن كما في الرياض

وقفة: نستعيد مقولة للأمير محمد بن سلمان: "السعودية ليست خيارًا في مستقبل المنطقة… السعودية هي مستقبل المنطقة".. بهذه الروح، كانت زيارة ولي العهد إلى الولايات المتحدة لا جولة سياسية بل كانت رسالةً دولية: (أن السعودية اليوم ليست تابعًا في العلاقات الدولية، بل لاعبٌ رئيس… وشريكٌ حتمي… وركيزةٌ ثابتة في شكل الاقتصاد العالمي الجديد). 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!