الوضع المظلم
الأربعاء ١٩ / نوفمبر / ٢٠٢٥
Logo
  • سايكس – بيكو يعود… والمنطقة تعيد تعريف نفسها: قراءة في رسائل MEPS 2025

سايكس – بيكو يعود… والمنطقة تعيد تعريف نفسها: قراءة في رسائل MEPS 2025
شيار خليل

شيار خليل

عاد اسم “سايكس – بيكو” بقوة إلى منصة منتدى السلام والأمن في الشرق الأوسط (MEPS 2025)، ليس بوصفه وثيقة تاريخية، بل باعتباره المسؤول الأول عن كثير من التشققات التي ما زالت تتكرر في جسد المنطقة. بدا واضحاً أن الشرق الأوسط يعيش لحظة مراجعة نادرة، وأن الخرائط التي وُضعت قبل قرن لم تعد قادرة على احتواء واقع تحوّل ديموغرافياً وسياسياً وثقافياً عشرات المرات. ومن دهوك، كانت الرسائل أكثر وضوحاً من أي وقت مضى: المنطقة تحتاج إلى نماذج حكم جديدة، وإلى توافقات داخلية تقوم على المصالح المشتركة، لا على خطوط رسمت ذات يوم بعيد.

حين قال الرئيس مسعود بارزاني إن “ندوب سايكس – بيكو ما زالت تنزف”، كان يحدد بجرأة جوهر الأزمة. فالاتفاقية التي قسمت المنطقة تجاهلت تنوع شعوبها، وخلقت داخل كل دولة تركيبات غير متوازنة، جعلت السلم الأهلي هشاً، والتعددية عبئاً بدل أن تكون قوة. الكورد كانوا أول المتضررين من تلك التقسيمات، لكن التجربة أثبتت أن الضرر لم يكن قومياً فقط، بل شمل العرب والآشوريين والتركمان والعلويين والسنة والشيعة وسائر المكونات. فالمنطقة كلها وُضعت ضمن قوالب سياسية لا تشبه هويتها الحقيقية، ما جعل الأزمات تتكرر جيلاً بعد جيل.

خميس الخنجر ذهب إلى المسألة من زاوية أخرى حين تحدث عن عقلية “إعادة ترتيب المنطقة من الخارج”، محذراً من أن أي محاولة لإعادة صياغة الشرق الأوسط بمنطق فوقي جديد ستنتج الأزمات نفسها. وأكد أن ما تحتاجه المنطقة اليوم هو توافقات داخلية بين المكوّنات، وشراكات بين الدول على أساس المصالح المتبادلة، لا على أساس الصراع على النفوذ.

لكن اللحظة الأبرز كانت مع أحمد داود أوغلو، الذي دعا صراحة إلى “إنهاء منهجية سايكس – بيكو” باعتبارها لم تعد قادرة على تفسير الواقع أو إدارة تناقضاته. تحدث الرجل عن ضرورة العودة إلى روابط التاريخ والجغرافيا والثقافة بين شعوب المنطقة، وإحياء منطق التعاون بدلاً من منطق إدارة الأزمات، وعن الحاجة إلى رؤية تستند إلى التفاهم والتعايش، لا إلى التنافس القائم على إرث قديم. كان ذلك إعلاناً واضحاً بأن العالم يتغير، وأن الشرق الأوسط يحتاج إلى تغيير مماثل في طريقة تفكيره بنفسه.

وعلى المنصة نفسها، قدّم رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني قراءة عميقة للملف السوري، أكد فيها أن أي حل سياسي في سوريا لن ينجح دون لامركزية سياسية وإدارية تُعيد الاعتبار للواقع الاجتماعي والعرقي والطائفي الذي حاولت الحدود القديمة تجاهله. كانت هذه من أكثر المداخلات انسجاماً مع روح النقاش: المنطقة لا تحتاج إلى دول أكبر، بل إلى دول أعدل. ولا تحتاج إلى سلطة مركزية قوية، بل إلى سلطة قادرة على استيعاب التنوع وحماية السلم الأهلي.

وفي قلب هذا الحراك الفكري، لعب رئيس حكومة إقليم كوردستان مسرور بارزاني دوراً محورياً، من خلال الضيوف الذين جمعهم في جلسات المنتدى، ومن خلال الأسئلة التي سمح بطرحها بلا حواجز. بدا واضحاً أنه أراد فتح هذا الملف، لا لتسجيل موقف، بل لإعادة صياغة النقاش على أسس جديدة: المصالح المشتركة، التعايش، بناء الشراكات، وحماية التنوع. لقد صنع إطاراً فكرياً جعل المنتدى مساحة لإعادة النظر في الأساس الذي قامت عليه دول المنطقة الحديثة، ودفع الحضور إلى التفكير في كيفية الانتقال من الماضي إلى المستقبل عبر إصلاح آليات الحكم، لا عبر استبدال خرائط بخرائط أخرى.

ما جرى في دهوك لا يمكن قراءته بمعزل عن الحراك الإقليمي الأوسع. فالعراق يعيد ترتيب توازناته الداخلية والخارجية، وتركيا تبحث عن استقرار طويل الأمد مع جيرانها، ودول الخليج تنظر إلى الأمن الإقليمي من زاوية المصالح الاقتصادية والتنموية، وإقليم كوردستان يرسخ نفسه نموذجاً للاستقرار وسط العواصف. هذا المشهد لا علاقة له بمنطق سايكس – بيكو، بل بمنطق جديد يقوم على احترام الهويات، وعلى التعاون بدلاً من الصدام، وعلى بناء الثقة بين المكونات داخل كل دولة وبين دول المنطقة كلها.

وهكذا، بدا المنتدى وكأنه إعلان صريح أن الشرق الأوسط يتحرك نحو مرحلة مختلفة. مرحلة يُعاد فيها تعريف الدولة من خلال قدرتها على حماية التعددية، لا على فرض التجانس؛ وعلى تعزيز السلم الأهلي، لا على تعميق الانقسام؛ وعلى بناء اقتصاد مشترك، لا على بناء حدود فاصلة. لم يكن النقاش عن “إعادة رسم الخرائط”، بل عن “إعادة بناء العلاقات” داخل الدول وفيما بينها، وعن تأسيس شراكات دائمة تقوم على المصالح المشتركة والعيش المشترك، كما أشار الرئيس مسعود بارزاني مراراً.

من دهوك، بدا واضحاً أن المنطقة تبحث عن نموذج مختلف، وأن الزمن الذي كانت فيه الحدود الجامدة تحدد مصير الشعوب قد انتهى. أما المرحلة المقبلة، فستُبنى على تفاهمات داخلية، وعلى منظومات حكم تستوعب تنوع المجتمعات، وعلى إرادة سياسية تجعل من السلم الأهلي أساساً للاستقرار. لقد انتهى عملياً زمن سايكس – بيكو، لا كخرائط فقط، بل كطريقة تفكير. والشرق الأوسط يبدأ اليوم، على طريق صعب وطويل، كتابة نسخته الخاصة من نفسه… من الداخل.

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!